بحسّ الناقد، وعشق السارد، ونزاهة شاهد العيان، ومهارة الصحفي، ومنهجية المؤرخ، يرفد الأكاديمي الدكتور عثمان محمود الصيني الأدب السِّيري بكتابه الأحدث «سيرة من رأى» الصادر عن أدبي الطائف ومؤسسة الانتشار العربي، في طبعة أولى، سطّرت توثيقاً للمشهد الأدبي والثقافي في المملكة، بعين من رأى، وذاكرة من سمع، وخبرات من عايش وأدرك، وخبر المكان، ورصد تحولات الأحداث، وأثرها في الزمان، وأنصف الإنسان، خصوصاً المنتمي للوطن والإبداع.
رصد (أبو حازم) مواقع، ومواضع، ومنازل، وجبالاً وأودية، ولم يمر برسمٍ لا يسائله، ومن خلال قراءة كتابه تحتار في تصنيف جهده، فهو المؤرخ الذي يربط الحاضر بالماضي، وهو الأنثروبولوجي بما يستعيد من حكايات وروايات وأساطير، وهو الأديب باستحضار المثل والحكمة وبيت الشعر وتوظيفها في السياقات، وهو الورّاق بعشقه للفهرسة، وشغفه بالمخطوطات، التي تجلّت ملامحها في تطوعه لفهرسة مكتبة الهادي، والتبرع بوقته مجاناً في سبيل الوقوف على صفحة من مخطوط طُمس، أو رسم درس.
ولعل من أشقّ التصورات، أن تُرجع هذه الثقافة الموسوعية للدكتور عثمان الصيني إلى نبع واحد، أو رافد وحيد، فحياته في مكة ومن خلال دكان والده، أتقن لغات، واستنطق ثقافات، وحاور قامات، ولم تبرح ذاكرته شخصيات، ولا ينكر فضل الطائف، التي كانت مكتباتها قبلة، والمحلات التجارية يلتقي فيها الطامحون للمعرفة، فعرف أحمد السباعي في دكان الصّراف العسلي، وفي خان الأوقاف.
تعرّف على محمود عارف، وأبو تراب الظاهري، كما أن دراسته في دار التوحيد، وكلية الشريعة واللغة العربية في مكة، والتواصل مع عمالقة بقامة لطفي عبدالبديع، خليل عساكر، وزمالته للدكتور سعيد السريحي، وعالي القرشي، وغيرهم، كل ذلك تجده ينبض بالحياة في الكلمات والأوقات بأصفى وأنقى العبارات.
ومن المؤكد أن «سيرة من رأى» فنّدت اتهامات الصحوة، التي قررت الانفراد بالمجتمع وأدلجة الأدب، واتهام الحداثة بما لا تحتمله، ومنه أنها صنيعة ومكيدة، لافتاً إلى أن الحداثة بدأت، بعشق مجموعة من طلاب كلية الشريعة واللغة العربية في مكة، للنظريات الحديثة في الأدب واللغة، وانجذابهم للفلسفة، وتطبيق النظريات على شعراء كلاسيكيين، من عصور أموية وعباسية، إلا أن تجني الصحويين شوّش صورة الحداثيين، بحكم توظيف كل المنابر ضدهم، عدا بعض الملاحق الثقافية والأدبية.
ولعل هذا الكتاب (الشهادة) يأتي رابعاً في توثيق مرحلة من مراحل الحركة الثقافية الحديثة في بلادنا، إثر صدور كتب «حكاية الحداثة» للدكتور عبدالله الغذامي، و«الحياة خارج الأقواس» للدكتور سعيد السريحي، و«استقرت بها النوى» للدكتور حمزة المزيني.