في مثل يوم أمس من العام الماضي توفي أبي.
حزنت عليه حتى لكأني كنت أظن أن الأب، الذي لا يعيش وحده، أيضاً لا يموت وحده!
كان موت أبي مفاجئاً لي، فهو لم يبلغ المئة سنة بعد (96 عاماً)، مات مبكراً.. أو هكذا كنت أظن.
كل المواعظ التي سمعتها طوال حياتي عن أن «الحياة قصيرة» لم تأخذ حقها من قناعتي كما فعل موت أبي «المبكر».
بدأت أزهد في متع الدنيا، فالحياة قصيرة..
وأُسرع في إنجاز ما أريد أن يبقى بعدي، فالحياة قصيرة..
وتزداد دهشتي من الخصومات بين الناس، فالحياة قصيرة.
(2)
قالوا لي: أيام وأسابيع معدودة وستنسى.
خفتُ من هذه الوعود المطمئنة، فمن قال أني أريد أن أنسى موت أبي؟!
كان لا بد أن أجد وسيلة أكافح بها النسيان الموعود!
وجدتها..
سأعمل على إخراج (الأعمال الكاملة) لوالدي عبدالله بن إدريس، يرحمه الله.
كيف أنساه وأنا أقلّب كتبه وحروفه وصوره كل يوم، ومع كل بروفة جديدة من الكتب أتعرّف على خصلة جديدة من خصال أبي. كانت فرصة للتعرف، أو التعارف، بيننا من جديد!
(3)
توفي أبي في 6 أكتوبر «الذي كان في ذاكرتي اليوم المجيد الذي كُسرت فيه شوكة الهيبة الإسرائيلية، والآن أصبح في ذاكرتي اليوم الحزين الذي كُسرت فيه شوكتي».
بدأت العمل على جمع إرثه الكتابي يوم 18 أكتوبر (بعد مضي 12 يوماً من وفاته، يرحمه الله).
أخذت عهداً على نفسي أن أنجز العمل قبل أن يكمل عاماً من رحيله، لقناعتي بأن التباطؤ والتسويف في إنجاز ما يخص الراحلين يزيد الأمر صعوبة وتعقيداً.
لم يكن الأمر سهلاً كما ظننت، فالكتب التي أصدرها في حياته باتت آليات استنساخها قديمة ولا بد من طباعتها بالكامل من جديد، هذا في الأمر الفني. أما بشأن المحتوى فإن الزعم بأن هذه هي (الأعمال الكاملة) يتطلب البحث عن المفقود من قصائده ومقالاته المتناثرة بين الصحف القديمة.
لا تتخيلوا فرحتي بالوصول إلى ما يمكن اعتباره حتى الآن أقدم مادة منشورة له في الصحف (صحيفة البلاد، 15 ربيع الثاني 1371هـ)، قبل 73عاماً، وقد كان طالباً في السنة الثالثة بمعهد الرياض العلمي.
(4)
في يوم الأحد 2 أكتوبر 2022 (قبل 4 أيام من تمام العام على رحيله) احتفلنا بصدور: الأعمال الكاملة للأديب عبدالله بن إدريس.
قال الأمير النبيل تركي الفيصل في كلمته: «أنا محظوظ بحضوري هذه المناسبة، وكلنا نُعد من أبناء المرحوم ابن إدريس».
حقاً، شعرت تلك الليلة أن الحضور لم يصبحوا أصدقاء فقط، بل أقرباء.
(5)
مضت سنة كاملة على رحيل أبي، وقد نجحتُ في مقاومة فكرة «أني سأنساه».
كيف أنساه وأنا معه كل يوم، أقرأ ما كتب وأستقرئ ما قرأ.
ذرفتُ خلال هذا العام دموعاً أكثر مما ذرفت خلال 59 عاماً قبله.
في حفل الإطلاق، اتفقت أنا ونفسي أن لا نجعل للحزن مكاناً في ليلة الفرح بالإنجاز.
بدأتُ بالحديث أمام الحضور، وانطلقت قوياً فخوراً طويلاً، ولكني عند خط نهاية الكلمة تعثرت!
هل كانت تلك دموع حزن أم دموع فرح؟
لا يهم، المهم عندي أن لا تجف دموعي على أبي.