ثقافة وفن

«رسوم وطلل».. رحلة إبداعية تبحث عن العبقريات

إنها التاسعة من مساء الرياض.. يدوي تصفيق حار يبدّد النسائم الباردة التي تلفح الحضور في مسرح ميادين بالدرعية، حيث

إنها التاسعة من مساء الرياض.. يدوي تصفيق حار يبدّد النسائم الباردة التي تلفح الحضور في مسرح ميادين بالدرعية، حيث تُعرض فعالية مسرحية (رسوم وطلل) التي تنظمها وزارة الثقافة لتكون مسك الختام لمبادرة عام الشعر العربي.

«أداء أكثر من رائع، ابداع منقطع النظير ويستحق الإشادة»، قال خالد الشرهان، الإعلامي والناشط الاجتماعي، وهو يصفق لفريق العمل الذي تقدم في ختام المسرحية لتحية الجمهور.

أبطال المسرحية هما (رسوم) و(طلل)، واختير اسماهما في كناية لا ينقصها الذكاء؛ فالرسوم هي ما بقي شاخصاً من آثار الديار، أما الطلل فهو مفرد الأطلال التي كان يتغنَّى بها شعراء ما قبل الإسلام ويفتتحون قصائدهم بالوقوف بها، وما تبقى من آثار المحبوبة.

الشرهان واحد من مئات الحضور الذين حجزوا مقاعدهم لمشاهدة العرض المسرحي الأضخم (رسوم وطلل) الذي يتغني بمعالم وأطلال تجسدت على امتداد قوافي شعر العرب. ويبدو أنه غادر العرض وهو راض تماما عما شاهد: «مبدعون بمعنى الكلمة. لقد نقلونا في رحلة شعرية تاريخية ممتعة بلغة بسيطة تناسب الجميع، وفي قالب فاخر». شارك في المسرحية، وهي من تأليف وأشعار وإشراف الأستاذ صالح زمانان، الشاعر والكاتب المسرحي والباحث في فلسفة الدراما والنقد المسرحي، وإخراج الأستاذ المخضرم صبحي يوسف، الذي سبق أن أخرج عشرات الأعمال المسرحية، شارك 55 راقصاً استعراضياً ووقف خلفها 300 شخص، واستغرق تجهيزها أكثر من 60 يوماً، واستخدمت فيها تقنيات مساندة عبر شاشات ضخمة نقلت الجمهور في رحلة بصرية أخاذة إلى مواطن الشعر والشعراء الأثرية.

عرض ساحر

يقدم العمل عرضاً أدائيّاً ساحراً يحكي تنافس مجموعة من الشبان يقودهم (طلل)، ومجموعة من الشابات تقودهن (رسوم)؛ وذلك من أجل إتمام خارطة ما؛ حيث يتتبعون في رحلتهم جزءاً كبيراً من سيرة المكان الجغرافي في شعر ما قبل الإسلام، وعصر صدر الإسلام، الذي وردت فيه الأماكن والأطلال، التي تقع في أنحاء الجزيرة العربية التي تمثلها السعودية اليوم.

يصلون في النهاية إلى اكتمال خارطة شعرية جغرافية للشعر العربي القديم، داخل خارطة بلادهم السعودية، وسيظهر الشعراء في بلادهم مجدداً بعد قرون، ثم يقع بَطَلا هذه الرحلة والمنافسة (طلل) و(رسوم) في الحب.

ما الذي يحدث عندما يجتمع صالح زمانان وصبحي يوسف في عمل مسرحي؟ يجيب فهد اليحيا بعبارة مختصرة: «إذا اجتمع هذان الاثنان، اكتمل الإبداع». أما الإعلامية خديجة الوعل فرأت أن للعمل: «حضوراً باهياً يشبه الألوان المبهجة». يختار تركي بن دهيمان عبارة أكثر بساطة وعامية، فالمسرحية: «شيء مفخرة ويشوش راسك» -على حد تعبيره-.

بالفعل، تقدِّم المسرحية وجبة ثقافية وأدبية ومعرفية وترفيهية دسمة ومكتملة الأركان والعناصر، إذ «تأخذنا بين حاضر مورق وإرث مغدق، ناسجةً رحلة ثقافية حضارية للبحث في جغرافية الشعر وتضاريس القصيدة العربية بكافة محمولاتها وتجلياتها ودلالاته»، وفقاً للدكتور علي بن زعلة، الأكاديمي في الأدب والنقد والدراسات الثقافية.

بالنسبة إلى الكاتبة والروائية لبنى الخميس، فقد خرجت من المسرحية «مشبعة بجماليتها» -على حد تعبيرها-. وكتبت تقول: «شعرا/‏ موسيقي/‏ لوحات استعراضية.. حالة طربية استغرقتني، تجعلني أتساءل بحسرة: كل هذا البهاء لا بد أن يطوف المملكة ومسارحها، دول الخليج، والدول العربية، والمهرجانات الدولية». وأضافت: «لطالما قلت سابقا.. خرائط وطني ستجدها في القصائد. أبدعت أستاذ صالح زمانان وفريقك الموهوب».

عمل مشغول بحرفية فنان

الدكتور بن زعلة يرى أن فرادة هذه الرحلة التي قدمتها المسرحية: «تكمن في دهشة مساراتها وغِنى مراحلها ومنعرجاتها التي يأخذنا فيها الشاعر والمسرحي صالح زمانان في نصه المشغول بحرفيةِ فنان، وعمق خبيرٍ عارفٍ بالمدوّنة العربية التراثية».

ويضيف: «استطاع النص المزاوجة بين المادة الشعرية ودينامية المشهدية المسرحية، التي جسدها المخرج المبدع صبحي يوسف بخبرته لتصلنا هذه التجربة المسرحية البهيجة».

وكانت وزارة الثقافة، أطلقت هذا العرض المسرحي الأدائي؛ لتمنح الزوار تجربةً فريدةً من نوعها يعيشون خلالها فعاليات مستوحاةً من أسماء الشعراء ومدنهم والفنون المعاصرة لها؛ لتكون تتويجاً لمشروع «مسار الشعر العربي»، وختاماً يليق بمبادرة عام الشعر العربي 2023، وتعزيزاً لمكانته في عقول الأفراد، وترسيخه في ثقافتهم.

ووفقا للأستاذ صالح زمانان، تهدف مسرحية (رسوم وطلل) إلى إبراز المكانة الحضارية المهمة للجزيرة العربية، ودورها المؤثر في نشأة الشعر العربي ونهضته الكبرى: «التي جعلت من هذا الفن البديع ديواناً للعرب. ومجنى لثمار العقول بفنونه وأساليبه وقصائده، التي جسدت المعاني الجليلة، ونقلت مآثر العرب، وتجلت فيها مشاعرهم وأفكارهم وتطلعاتهم نحو الخير والحياة والحب والجمال».

وأبان أن عرض المسرحية أخذ قالباً إبداعياً مبتكراً: «يعتمد على التنقيب في التراث الشعري العربي لاستطلاع جغرافية المملكة. وذلك بهدف إبراز تقاطعها مع المواقع التي وردت على ألسنة الشعراء، لإخراجها في حلة مسرحية غنائية معاصرة».

وأضاف: «اقترن الشعر العربي بمنطقة شبه الجزيرة العربية على مر السنين، وذلك لأن السعودية هي أرض الشعراء الذين عاشوا فيها حياتهم التي استلهموا منها سطوراً جمعت مرادفات ومعاني بالغة الفصاحة خلدت في التاريخ، وكتبت بالذهب على أستار الكعبة».

وتسعى وزارة الثقافة من خلال هذه الفعالية إلى تسليط الضوء على المكانة الحضارية الاستثنائية للمملكة، والأماكن والمواقع السعودية التي عاش فيها الشعراء العرب، أو وردت في قصائدهم، كما تهدف إلى إحياء تاريخ الشعر العربي العريق، وإبراز المكانة الحضارية المهمة للجزيرة العربية، ودورها المؤثر في نشأة الشعر العربي ونهضته الكبرى التي جعلت من هذا الفن البديع ديواناً للعرب، ومجنى لثمار العقول ببحوره وفنونه وأساليبه وقصائده، التي جسدت المعاني الجليلة، ونقلت مآثر العرب، للإسهام في تحقيق أهداف الإستراتيجية الوطنية للثقافة في تعزيز الهوية الوطنية.

كرنفال سعودي

«المسرحية ليست رحلة، ولا جولة ولا مجرد استعراض مسرحي أدائي معاصر يقام هذه الليالي على مسرح ميادين بالدرعية» بحسب اعتقاد خالد ربيع، الباحث في السينما، بل يرى أنها: «كرنفال سعودي باهر. كرنفال فني عصي على التوصيف.. تحليق، سريان إبداعي، إبحار جمالي للخيال بلباس الواقع والتاريخ والعصر».

يتعمق ربيع في تفاصيل العمل ليصفه بالسحر الذي: «يستدعي شاشات العرض الذكية، لتوليفات راقصة مستلهمة من المناطق الجغرافية المتعددة في ثقافاتها السعودية: أزياء، ألوان موسيقية، طرق غناء وأناشيد بأداءات راقصة فاتنة لشباب سعوديين وشابات سعوديات، شبان تملؤهم الفتوة والشموخ يقودهم (طلل) الشخصية التعبيرية، وشابات؛ بنات نشامى تقودهنّ شخصية فتاة تدعى (رسوم)».

ويوضح: «كل ذلك في فضاء فني يعاقر الشعر الجاهلي، شعر المعلقات، عبر مواطن الشعراء: نجد، الحجاز، وادي عبقر، نجران، الجوا، أجا وسلمى وطويق، عنترة وزهير بن أبي سلمى، وامرؤ القيس والنابغة وطرفة، لبيد والمهلهل.. تحليق شيق يتنقل بين مناطق الشعراء في السعودية الحبيبة.. لتقول لجمهور الحاضرين هذه ديار مملكتكم الغالية».

يخلص ربيع إلى أن المسرحية قدمت: «سينوغرافاً يستنطق التقنية البصرية على الشاشات الخلفية للمسرح المتماوج مع تفاعلات الإضاءات بتلويناتها الخاطفة للأبصار. لوحات راقصة تمثل رشاقة وجمالية الرقص الجماعي للشباب والشابات».

معتبرا أن كل ذلك: «كان في خضم حبكة درامية خفيفة تتناول حكاية رحلة بحث تنافسية».

Trending

Exit mobile version