أكتب في ساعة مبكرة جداً من صباح اليوم الأخير للعام الميلادي 2021، وعلى مقربة من انطلاقة عام ميلادي جديد، العام الذي عبرنا معه وفيه بالروتين المعتاد والملل المتكرر، كانت أيامه تركض بنا دون شعور وبلا نضجٍ كافٍ، الكتابة استشفاء وتأتي هنا بالتحديد بمثابة تمرين قاسٍ كنت أحتاجه وأنا الذي لم أعد أتقبل مرارة الكتابة التي تشبه مرارة القهوة بالضبط لمن عاشها وخاض عوالمها ومحرقتها الذهنية، وبالطبع لا أستغني عن القهوة كعادة المفتونين باللحظات الهادئة والمتعطشين للانعزال اليومي والمحملين بخيبات متتالية تجود بها الوجوه والمواقف وتقدمنا كأسوأ المؤمنين حيث نلدغ من ذات الجحر مرات ومرات. حين أكتب يبدو وكأنني مهووس بالتشاؤم وغارق في ارتداء السواد بل هناك من قال لي ذات يوم «أنتَ مصدرٌ للتفاؤل حين ألتقيك وأجلس معك، تقفز وتمضي بي لمنصات الفرح والبهجة وعتبات الحب والسلام، ثم تمدني بمؤونة كافية من الحماس والطاقة ومؤملاً بأن أعود لك لذات النَفَس، إنما حين أقرأ لك أو أعبر على ما تجود به مدوناتك وحالاتك أقرأ اضطراباً مزاجياً هائلاً ونزوحاً للذكريات التي لن تعود وانغماساً في تلبس سواد ليس لك ولن يكون لك، وهنا أتوجس من حقيقة أن يفهمك المحيطون بشكل سطحي ويأخذهم الشك أني كائن يعيش عالمين ويدخل ميدانين ويخوض معركتين ويرتدي وجهين، رغم أن عزف الحياة اليومي شيء، ونزف الكتابة أمر مختلف تماماً فقد يمثلك وقد يحملك إلى توهج مزاجي مطلوب وكذلك يحدث أن يجعلك تخفف من عبء عابر وصداع مؤقت. قبل عام بالضبط كتبت أن هناك أياماً للنسيان ويجب أن تكون كذلك مهما كلف الأمر، تستحق أن تركلها بهدوء وأنت تضم يديك لمقربة من صدرك، هكذا بلا مقدمات ودون تقطيب لجبين أو فرك حاد لليدين، ومن المؤكد في ظل هذه الإجراءات الشجاعة من الركل والتهميش والهجرة للنسيان أنها محملة بالألم وشيء من القسوة والبعد عن الحالة الطبيعية المعتادة، صحيح أن هذه الأيام الرمادية لم أفقد فيها أحداً باستثناء وقتي الخاص ومزاجي الجيد وكثيراً من هواياتي، إلا أن هذا الفقد عميق ومؤثر وطاحن مع مرور الوقت وتلاشي مسببات الرماد والدمار. وأنا أغلق اليوم الأخير من العام لا أزال مبتلى بالتعرف على الفرص المخيفة، الوجوه الملونة، المشاعر المضطربة، الثقة المتذبذبة وأعيش مع عقول تؤذي ببلاهة وأناس حظهم أكبر منهم، أمضي وقتاً طويلاً في معارك العمل واضطراباته وفوضاه العارمة والمجد هنا لمن يجيد دق الطبول وإحداث الجلبة والصراخ كذلك، أعيش منعزلاً ما تمكنت من ذلك ولكن كيف لي أن أعيش هذا الجو المذهل ونحن مصابون بمحنة التواصل الاجتماعي، ضجيج الواتس آب والملل الذي يتقنه السيد/ البريد الإلكتروني، جاء هذا العام محملاً برصيد إضافي من كل شيء، ليس شرطاً أن يكون الرصيد مما نحسد عليه، هناك أرصدة من الدروس والذكريات واللهجات والجمل والعبارات والكلمات المؤذية حد الملل والرتابة والبصق في كل زاوية، رصيد هذا العام جاء منوعاً متموجاً، تعرفت على أصدقاء جيدين وهم قلة، أصدقاء سيئين وهم كثر، ودعت كثيراً من الجيدين وقليلاً من السيئين، صدمت بما فيه الكفاية، علقت آمالاً، نثرت صدقا، غرقت في ما يعني غيري أكثر مما يعنيني ويفيدني، وصفت بالنبل تارة، ووصفت بالطيبة الضارة تارة أخرى، تعلمت أن الصدق ليس مناسباً لهذا الوقت وكذلك الثقة، تأكدت من أن كلام الليل يمحوه النهار، نسيت أن لنفسك عليك حقاً، نمت في غير أوقات النوم، استيقظت في غير أوقات الصحو، أدرت محرك سيارتي بلا وجهة، أجريت اتصالات بلا هدف، أدمنت القهوة، لعنت لحظات بعينها، كرهت عقولاً ظنت لجهلها أنه لم يفهمها أحد بعد، تضررت من أناس يعتقدون أننا بلا مشاعر ولا ظروف ولا رغبات ولا تقلبات ولا احتياجات، مارست الرياضة بشكل أفضل، تناولت أدوية لم أكن مجبراً عليها، تعلقت مؤقتاً ببعض الأمكنة، شعرت بومضات حنين ونبضات قلب، سافرت لمرة واحدة فقط، بكيت ثلاث مرات على مدار العام، قضيت أقل وقت مع أسرتي، أمضيت أطول زمن في أروقة العمل، نجحت في إقناع نفسي أن التفاؤل مهم والأقربين أولى بالمعروف، تقاعست اجتماعياً لحد مذهل، ونشطت ذاتياً وصولاً لهدوء نسبي، خضت علاقات فاشلة، عرفت أن الصديق عملة نادرة، شعرت أن صديق العمل إنسان لا يُعوّل عليه، شاهدت أن الحمقى يتآلفون سريعاً وهو زمنهم، أدركت أن الرجولة موقف ومن يحبك ستكتشفه سريعاً دون أدنى مجهود منك فقط ضعه في مواجهة موقف ما – تأكد من قدرته على الثبات وانتظر النتيجة، تأملت كيف أن النجاح يكون وهمياً، تألمت حين يكون الرأي جريمة ومدعاة للكراهية، تنبهت لحقيقة أن من لا يتقن سوى أمر واحد فسيزعجك به كل وقت وسيحاول إقناع الجميع أن ما يتقنه هو أهم شيء في الوجود، أقررت أن المهارات أهم من الشهادات وأن بيئة العمل أخطر مؤثر على الصحة، وأخيراً وقعت بعشرة أصابع أن «علي» يجب أن يكون «علي» وأن عليه أن يكون أقوى مهما كلف الأمر، وأيقنت أننا لا نمرض ولا نموت مما نأكل بل نحن نمرض ونموت مما يأكلنا، وصلت لنقطة مفاجئة اعتبرتها نقطة السطر الأخير ولم أعد سطراً واحدا للخلف، مضيت بلا مكابح، وبلا مراجعة أو تدقيق، جريت مع الكتابة كما جرى بي العام تماماً، وعلى العابر أن يتذكر هجرتي القسرية الطويلة للكتابة، مزاجي الغائم، نهاية العام، شهوة الكلام الذي يمكن أن يقال وذاك الذي أتمتم به كوردٍ يومي، وعليه أن يدقق من بعد ذلك في أن رحلة عام هي رحلة شاقة شاهقة وطاحنة طاعنة حين يكون الفكر فيها مشتتاً والصراعات على قدم وساق وفجيعة أن ما يراه الآخرون أو يعتقدون أنك تعيشه وتؤديه هو أمر مختلف تماماً عن الحقيقة المرة والواقع العصي على الفهم، أي أن عليّ أن أبدو مثالياً خيالياً كما يحبون ولأتدبر أمري الشخصي والنفسي عقب ذلك.. انتهى كشف الحساب.