نزولًا عند رغبة المتابعين، أعاد الروائي البوكري عبده خال، النظر في عنوان روايته الجديدة التي أعلن قرب صدورها عن دار الساقي في معرض الرياض الدولي للكتاب تحت عنوان «حبل سرّي» واستقرّ على عنوان جديد باسم «وشائج ماء» بعد اكتشافه أنّ العنوان مكرّر في ست روايات؛ منها رواية مها حسن التي صدرت في طبعتها الأولى عام 2011 وظهرت في اللائحة الطويلة لجائزة البوكر العربية!
خال أكد أنه عندما سمّى روايته بهذا الاسم لم يكن على اطلاع أنّ الاسم تمّ طرقه، وأنه بالبحث وجد أنّ ست روايات منشورة بالاسم نفسه، وأضاف أنّ لديه يقينًا باختلاف الروايات ومغايرتها إلاّ أنها اجتمعت في الاسم، وهو يرى أنّ الرواية لها اسم لا يشاركها فيه أحد.
«عكاظ» ناقشت تكرار العناوين في الأعمال الإبداعية مع نقاد مهتمين ودارسين للرواية، حيث رأى الدكتور عبدالله العقيبي أنّ العنوان الروائي عتبة مهمة من عتبات العمل السردي، اهتمت به المدونة النقدية الغربية ضمن دراسات التيترولوجيا؛ أي علم العنونة، ولا شك في أن المكون الجمالي عصي بطبيعته على الضبط النقدي، لكن هذا لا يدل بأي حال من الأحوال على عبثيته أو لا جدواه، إذ لا بد من حصول الفائدة المعرفية أثناء تناول الجمال بالدراسة والنقد، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن العملية النقدية لا تتنازل عن تدخلات الذوق، الذي يُعبر بدوره عن رأي جمالي.
وأكد العقيبي أنّ النقاد اختلفوا حول عنوان الرواية بالنسبة للنص، فهو تارة جزء من النص، وتارة أخرى مكون خارجي، ضمن العتبات النصية المؤطرة للعمل الأدبي، إلاّ أنهم لا يختلفون على أهميته، وعلى ضرورة ألا يقف المتلقي عنده لذاته، بل يجب أن يتخذه معبرًا يلج من خلاله إلى أعماق النص؛ لأن العتبة في مفهومها دلالة عبور.
وأشار العقيبي إلى أنّ وقت ظهور العنوان يكون وقت صدور طبعته الأولى بحسب جيرار جينيت، إلا أن الأمر عنده منوط بإمكانية القبض على ترددات الكاتب أثناء اختيار عنوانه، فهناك ما يُعرف بما قبل النص/ النص القبلي، وأورد في هذا الصدد ترددات ماريسل بروست في اختيار عنوان عمله العظيم «البحث عن الزمن الضائع»، الذي اختار له عنوان «تفطرات القلب» قبل أن يستقر أخيرًا على عنوانه الشهير، ووصف «تفطرات قلب» بأنه كان بمثابة العنوان المؤقت، المصاحب للعمل أثناء كتابته.
العقيبي ذكر أنّ المتابع لتاريخ العنوان الروائي وتقلباته، سيلاحظ أن عددًا غير قليل من الروايات العالمية حملت عناوين أخرى قبل صدورها، غير العناوين التي اشتهرت بها، فرواية ماركيز الشهيرة «مئة عام من العزلة» كان المقرر لها أن تخرج للقراء تحت عنوان «بيت»، لكنه استدرك الأمر في اللحظات الأخيرة قبل صدور الطبعة الأولى. وكذلك رواية «ذهب مع الريح» لمارغريت ميتشل، التي حمل عنوانها المؤقت اسم «يوم غد يوم آخر»، ويجدر الذكر أن هذا العنوان المؤقت أخذ أيضًا طريقه للشهرة، فقد كان الجملة الأخيرة في الرواية، وتم استثماره في عدد من الأفلام والمسلسلات الدرامية بسبب شهرته. والارتباك ذاته في العنوان الروائي وقع مع تولستوي في روايته الأشهر «الحرب والسلم»، ومع جون ستاينبيك في رواية «فئران ورجال»، والقائمة بلا شك طويلة، وأسباب العدول عن العنوان الأول متعددة بتعدد التجارب الإبداعية، فمرة يكون التغيير بسبب تدخلات الناشر، وأخرى بسبب ترددات الكاتب نفسه، ولا ريب أن الأمر سيستمر ما دامت الأعمال الروائية، المهم هنا أن نستوعب طبيعة الفنون وتقلبات مصائرها، وأن الأعمال الفذة لن يشوه تلقيها وذيوعها عنوان معين، العبرة دائمًا في المتن الروائي، فإذا ما كان جديرًا سرعان ما تتراجع أهمية ظروف العنوان الروائي، ولا يتم تداولها إلا على سبيل المفارقة.
الدكتور سامي جريدي أكد أنّ العنوان يمثل عتبة مهمة في الدراسات السيميائية الحديثة، وواجهة بصرية ودلالية للعمل الأدبي، فمن خلاله يُعرف ومن خلاله تحدد هوية المنتج، لكن المدهش في الأمر أن بعض المبدعين يظنون أن عناوين أعمالهم ذات ملكية حقوقية خاصة بهم، لا يحق استعمالها وتكرارها، وهو أمر يحتاج إلى مراجعة وكسر حدة توتر حساسية العناوين المتشابهة. وأضاف: حقيقة العناوين تكمن في أنها ليست حكرًا على أحد، فهي مطروحة في الطريق، لكن هناك عناوين طبعت وجودها من خلال اسمها في ذاكرتنا، ولهذا لا نريد أن تكون إلا لكاتبها الأول من ذلك على سبيل المثال لا الحصر: عنوان رواية «زينب» لمحمد حسن هيكل تكرر كثيرًا لدى روائيين جاؤوا من بعده بالعنوان نفسه، لكنك ما إن تقول رواية «زينب» سرعان ما يتبادر إلى ذهنك كاتبها الأول الذي هو هيكل، وكذلك الأمر مع عناوين كثيرة كـ«المسخ» لكافكا، و«أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، و«شقة الحرية» لغازي القصيبي، وغيرها.
جريدي أشار إلى أنّ ما فعله الروائي عبده خال من تدارك يدل على أن العنوان قابل للتغيير ما دام يستمد صورته العلاماتية من متن النص، وهذا يدل على شجاعة الكاتب واتساع أفق الرؤية، وأكد أنّ هذا التغيير للعناوين ليس جديدًا فقد حصل لدى العديد من الروائيين والشعراء العالميين والعرب الذين غيّروا عناوين أعمالهم، وبعضهم تجاوز ذلك إلى تغيير صورة الغلاف مع كل طبعة جديدة، وهناك من جعل الأعمال الثلاثية والرباعية ذات الأجزاء المستقلة مضمومة في مجلد واحد.