كثيراً ما يتردد مصطلح النخبة والشعبوية، بين النقاد والمعنيين بدراسة الأدب، إما على سبيل التصنيف، أو التوصيف، أو المعيارية، ولأن ذائقة المتلقي هي المسؤولة عن استمزاج أدب ما، أو عدم استمزاجه، فإن المعيارية ربما تغدو طرحاً نظريّاً يتداوله الدارسون في أبحاثهم، فالأصل هو الأدب، دون تعصّب لنخبة، ولا استنكاف من الشعبوية، فالعبرة بما يتركه النتاج الأدبي من أثر ثقافي واجتماعي، وهنا نطرح السؤال على عدد من المثقفين، لاستجلاء آرائهم حول قضية متجددة، خصوصاً على مواقع التواصل الاجتماعي:
فيرى الناقد محمد السحيمي، أنه استناداً على قراءة التاريخ فإن الأدب نخبوي من حيث الإنتاج (الإرسال) وشعبوي من حيث التلقي (الاستقبال)، ونادراً ما كان نخبوياً شعبوياً في آنٍ واحد، إلا أنه لا تستمر هذه النوادر طويلًا؛ إذ سرعان ما تخذلها تقلبات الظروف الزمانية السريعة!. وأوضح أن من أبرز النوادر ظاهرة (المتنبي): الذي ظلّ شعره في مرحلة السيفيات -نسبة إلى سيف الدولة الحمداني-؛ التي امتدّت نحو عشرة أعوام (نخبوية) وأدت إلى الارتقاء بالذائقة الشعبية العربية إلى مستوى كاد يلغي الحدود النسقية بين النخبة والشعب؛ إلا أنه بانتقاله البراغماتي (الميكافيلي) إلى المرحلة الكافورية المصرية بلغ ما أسميه «العمى الفرعوني»، فاعتقد أن الشعوب أصبحت ملك هواه الشخصي يقلبها يميناً أو شمالاً، وأن النخبة رهينة رضاه أو سخطه، فمن يمدحه يرتفع وإن كان وضيعاً، ومن يهجوه يسقط وإن كان رفيعاً! وأضاف السحيمي: وفي العصر الحديث ظل الصراع محموماً بين النخبوية التي مثّلها أحمد شوقي، والشعبوية التي مثّلها بيرم التونسى، إلى أن جاء أحمد رامي فكان الجسر الآمن بين الضفتين، فكانت ظاهرة أم كلثوم خالدة كالأهرامات إلى اليوم! مؤكداً أن طغيان النخبوية على الشعبوية، مدمر كطغيان الشعبوية على النخبوية! وأن الفن وحده هو الضامن للتوازن الجميل الناعم بينهما!! وخير مثال لذلك هو الأديب السيناريست أسامة أنور عكاشة في (ليالي الحلمية) وغيرها.
فيما يذهب الناقد محمد الحرز، إلى أن الأدب باعتباره نتاج القيم التي ترتبط بالإنسان وبثقافته وتاريخه على هذه الأرض، سابق على هذه التصانيف (شعبي أو نخبوي)، وتاريخ تحولاته في جميع مسارات أشكاله من شعر وسرد وغناء ومسرح وحكايات شعبية وملاحم أسطورية لم تخضع عند أغلب المصنفين والباحثين القدماء لمثل هذا التصنيف المعياري الذي يعيشه الأدب في الثقافة المعاصرة، موضحاً أن هذه التصانيف المعيارية ارتبطت منذ أواسط القرن التاسع عشر، بشيوع مصطلح (الشعب) الذي انتقل من الحقل السياسي والفكري إلى الحقل الأدبي وانتقل معه بعض دلالاته، وبالأخص ما يتصل منه بمفهوم البسيط والعفوي والسطحي والأغلب الساذج وسُمي تحته الأدب الشعبي، ما استدعى بالمقابل نشوء أو ظهور مفهوم آخر هو (الأدب النخبوي) أو الأدب الرفيع، الذي يحتوي على دلالات تتصل بالطبقة الاجتماعية التي تدّعي لنفسها المعرفة والأدب والثقافة والعلم والتحضر والتقدم، ويعبّر عنها بالطبقة المخملية التي لا ترى في عامة الناس سوى أناس وضيعين وهامشيين لا ينتجون أدباً بالمعنى العميق الذي يسعون إليه للتأثير من خلاله، ويرى أن حصر مفهوم الأدب بين هذين التصنيفين المعياريين في الثقافة المعاصرة، ظلّ مؤثّراً زمناً لا بأس به على صورته عند أجيال عدة في مختلف المجتمعات والثقافات العربية والعربية، إلا أن نشوء الدراسات الثقافية الغربية مدعوماً بالدراسات الأنثروبولوجية أعاد الاعتبار للأدب الشعبي المهمش ووضعه موضع القيمة الجديرة بالدراسة، وسلّط الأضواء عليه، إضافة إلى الدراسات الاستشراقية التي أعادت الاعتبار للجانب المهمش من الأدب العربي، ووضعته موضع الاهتمام، ولفتت إليه الأنظار، مشيراً إلى (ألف ليلة وليلة) و(مقامات الحريري) و(الوهراني) وغيرها من أدب الحكايات الشعبية، التي لم تحظ عند النقاد والدارسين القدماء بأهميتها بالنسبة للأدب العربي، ويؤكد الحرز أن ما يمكن استخلاصه من النظر في ارتباط الأدب عبر تاريخه بهذا الثنائي التصنيفي المعياري هو أن الأدب نفسه يتعالى على مثل هذه التصانيف، فهو بحكم كونه المعبر الحقيقي عن انفعالات الإنسان وعواطفه وتحولاته الثقافية والاجتماعية والفكرية والدينية، يعتبر قيمة ذات شأن مهم بالنسبة للشريحة الاجتماعية التي تنتجه، بغض النظر عن التصورات التي يطلقها الآخرون عنه، مهما كان هذا الآخر مختلفاً عنه أيدولوجياً أو فكرياً أو دينياً أو اجتماعياً، وأضاف: التاريخ يخبرنا أن الأدب دائري الحركة، وتختلف حركته من مجتمع لآخر حسب الظرف المكاني والاجتماعي والثقافي والتاريخي، فما يطلق -على سبيل المثال- على الأدب الشعبي في تاريخ الأدبي العربي باعتباره أدباً مهمشاً إزاء مركزية الشعر، أصبح في العصر الحديث هو الأكثر مركزية وأهمية إزاء الشعر، ويكفي النظر إلى موقع القصة والرواية أو الشعر الشعبي على مختلف لغاته عند المجتمعات العربية، لتتأكد مقولة إن الأدب بالنهاية لا يخضع لقيمة ثابتة حتى نضعه بين مزدوجين ونقول هذا التصنيف أو ذاك.
ويذهب الشاعر أحمد آل مجثِّل، إلى أن هذه الفكرة ليست من صميم وظيفة الأدب (نخبوي أم شعبوي)، بل هي دخيلة على أدبنا العربي وجلبها إلينا بعض الدارسين والباحثين العرب الذين امضوا فترةً من حياتهم العلمية في بعثات وعادوا إلى أوطانهم يحملون الفكرة ذاتها، وكان من أهم أهداف التقسيم في تلقي الأدب هو شعور بعض الدارسين للآداب بعلو مكانتهم وفوقيتهم وأنهم لا يقبلون بالأدب الذي يحاكي عامة الناس (الشعبوية)، بل ويوجبون أن يكون لفئة من البرجوازيين (النخبويين) ويرى أن هذا الاتجاه لا يخدم القضية الأدبية في شيء، بل إنهم يرون احتكار هذا الأدب لتلك النخبة في التلقي، وأوضح أنه من خلال تجربة حياتية، لا يؤمن بفكرة الأدب النخبوي، لأنه يفتقد لأبسط التعريفات العامة، وهي أن الأدب محاكاة الناس في همومهم وحياتهم وما بوجدانهم من الحب والآلام والحزن والكمد. وأضاف: لو اقتصر الأدب على فئةٍ معينة لما أصبح له قيمة في حياة المجتمعات، فالكتاب مثلاً يشبه الوجبات الغذائية يتناولها الفقير والغني والمقتدر والمحروم. ولفت آل مجثِّل إلى أن تعريف الأدب: أنه انعكاس للمجتمع وتعبير صادق عنه، برؤيةٍ فنية واعية تطرح الإبداع في لفظه وبيانه وفنونه وإيقاعه وبلغةٍ عالية الجودة خاليةً من الهنات والضعف، مؤكداً أن وظيفة الأدب، تكمن في الارتقاء بالذائقة وإعمال التفكير والتأثير والتفاعل، مشيراً إلى أن الأدب (الشعبوي) أكثر الفنون تأثيراً وقبولاً وحصداً للجوائز، ولو افترضنا صحة المقولة بنخبويته فإنه تسقط عنه القيمة الفنية والاجتماعية وقبل ذلك قيمته في التأثير والتفاعل. وعدّ الأدب الخالد أدب الناس، لأن عموم المتلقين للآداب يقتربون من الأدب الذي يشبههم ويرون فيه أنفسهم.
وذهب الشاعر عبدالعزيز حمود الشريف، إلى أنه لا ينبغي الخلط بين دور الأدب النخبوي في التنوير المجتمعي، وبين الدائرة الشخصية الضيقة للأديب نفسه، إذ تحور مصطلح النخبوية من القيمة الرفيعة للأدب، إلى التسطيح والشخصنة، وكأن المشتغل بالأدب هو من يصنع النخبوية ويوجه بوصلتها لوحده وكأنه مركز الكون وهذا يحدث للأسف وفي عالمنا العربي تحديداً، مشيراً إلى أن مثل هذه الأحكام، تهبط بقيمة الأدب الرفيع إلى دائرة الذاتية والعاجية المقيتة والاستعلاء بشخصنة يتباهى بها بعض الأدباء على المحيط المجتمعي، وأصبحت حالة تطلق على الأشخاص وليس على الأدب نفسه، ويرى الشريف أنه تم استسهال كلمة النخب لتكون صفة دارجة بين الناس تطلق على كل من هبّ ودبّ بشكل ممجوج، وأكد أن الأدب الرفيع كلما ارتفع في فضاءات الإبداع والصفاء الفكري أصبح عملاً نخبوياً -أي عملاً إبداعياً تراكمياً منجزاً- لا يضره إلى أين يتوجه، ولمن يوجه؛ فكم من الآداب العالمية برزت من خلال قوة التلقي الشعبي، بل إنه خلّدها ولم يحجبها كون «النخبوية» مصطلحاً شاملاً لجوانب الفن الحياتي الذي نستطيع أن نطلق عليها عملاً إبداعياً نخبوياً فريداً كل في مجاله، وعدّه ملكاً للمجتمع الذي يحدد معاييره، وليس فلان من الناس ممن يوهم بأن ما يطرح من منجز مختلف في الشكل والمضمون، وبالتالي ينسى دوره الحقيقي في إنجاز عمل أدبي محترم، ويصبح تركيزه على الذات النرجسية، عبر أشخاص ينتخبون شلة لهم تحت مسمى النخبة، ويعقدون لقاءات لا يحضرها إلا من يتفق معهم في كل شيء، وعدّه أمراً مخجلاً يصدم أي بناء أدبي تصنعه المجتمعات الحية التي تنسج البناء النخبوي لكافة الفنون والعلوم الخالدة الأخرى، مشيراً إلى أننا لم نصل بعد إلى مصطلح الصفوة النخبوية..!!.
العناد: لا تفصلوا الذائقة الأدبية بتحميل الأدب ما لم يحمله تاريخه
يذهب الكاتب بندر العناد إلى أن هناك من يقسم الأدب إلى نخبوي معقد بعيد عن القارئ، وشعبوي سطحي للعوام، ويتساءل: لكن هل الأمر بهذه الحدّية؟
ويجيب: قرأنا المعلقات فكان الشعر أصالة وجزالة، وقرأنا للمتنبي فوجدناه متفرداً في مجده، ولأبي نواس فاستكشفنا المجون والفلسفة، ثم سرنا مع الأندلسيين حيث الألفاظ تنساب كالماء، وجاء المهجريون فحملوا حنين الغربة والإنسانية والعشق، وأهل الديوان وأبولو فصبغوا الشعر بالحيرة والتجريب، ثم قرأنا لدرويش والجواهري ودنقل فلامسنا الثورة والإنسان والقضايا العربية، لا سيما درويش. قرأنا كل شيء، حتى الأدب الشعبي بمختلف لهجاته الخليجية والعراقية والشامية، ففهمنا تجارب شعراء رواد، واطلعنا على مدارس شعرية وتجارب متنوعة، حتى مسرحة الشعر، وما زلنا نقرأ، لأن الشعر لا ينتهي.
وأضاف: وفي السرد وجدنا متعة في قصص نجيب محفوظ بواقعيته الاجتماعية والتاريخية، وكذا حنّا مينه الذي اتخذ من البحر والصراع الطبقي محوراً لرواياته، وحيدر حيدر الذي قامت أعماله على ثيمة التمرد السياسي والتقاليد بلغة شعريّة، وعبدالرحمن منيف الذي فضح الاستبداد وتحولات المجتمع والحداثة، وغسان كنفاني الذي حملت كلماته روح المقاومة والهوية الفلسطينية، مشيراً إلى أنه ورغم تنوع الموضوعات واختلاف الأساليب، ورغم هذه الفوارق، فإن لكل جنس أدبي حظه وجمهوره من القراء، ولكل أديب وكاتب بصمته التي تميزه، مؤكداً أنه لم تفسد هذه التنوعات متعة القراءة، فلماذا نُحمّل الأدب ما لم يحمله تاريخه؟