ثقافة وفن

الوعيُ بالقصِيدَة

الشعرُ مخلوقٌ متمرِّد، يتكئُ على الخيَال؛ لوَصف واقعٍ عامٍّ، أو خاصٍّ، عبرَ مُروره بـ«عمليَّاتٍ جَماليَّة ودِلاليَّة»،

الشعرُ مخلوقٌ متمرِّد، يتكئُ على الخيَال؛ لوَصف واقعٍ عامٍّ، أو خاصٍّ، عبرَ مُروره بـ«عمليَّاتٍ جَماليَّة ودِلاليَّة»، هدفُها التأثيرُ على المتلقي، واستمالتِه عاطفيًّا وذهنيًّا، ولأنه متمردٌ، وغيرُ منضبطٍ، ومنفلتٌ من القُيود؛ ستكُون المعاناةُ من نصيبِ كَاتبه وقارئِه.

الشاعرُ يمرُّ بمنعطفاتٍ حادَّة، حينَ يغادرُ منطقةَ الكَلمات المباشرةِ، متجهاً صوبَ الرمزِ، والإشارةِ، والكنايةِ، والاستعارةِ، والمجازِ، وهي عمليَّاتٌ تحتوي شِفرةً خاصَّة بينه وبين القارِئ؛ تمكِّنهُ معرفتُها من افتكَاكِ الدِّلالة، واكتشافِ المخبوءِ، فينجو بذلك من «ألاعيب اللغة»، وخُدعها.

‏ألاعيبُ اللغةِ هي ذاتُها ألاعيبُ الشِّعر، إذ الاثنان مخلُوقان من جنسِ الأحرُف، فالأصلُ واحدٌ، لكنَّ «التوظيف مختلف»، حيث اللغةُ تتميَّز بالعمومِ والانتشار، بينما يتميَّز الشِّعر بالخصوصيَّة والمحدوديَّة؛ فكما تدلُّ «الشجرة» في عمومِ اللغة على جِذع، وجَذر، وأوراقٍ، وثِمار، تدلُّ في الاستعمال الشعري على النَّماء، والزِّيادة، والخيرِ، والعَطاء، والظِّل، والحِماية، والملجَأ.

‏ ثمةَ «توظيف ثالث» يُمارسهُ الشُّعراء؛ يتمثَّل في إسقاطِ معانٍ غير مألوفةٍ على الأشيَاء، فالشجرةُ كتصوُّر (توظيف عام)، والشجرةُ كدِلالَة (توظيف خاص)، والشجرة ُكإسقَاط (توظيف شخصي)، وهو ما يُمكنُ إيضاحهُ بمثالِ: شجرة ذات أغصان متباعدة ومنكسرة، تبدو كفم عجوز سقطت أسنانه؛ الذي يدلُّ على شيخوخةِ المرءِ وتقدُّمه في السنِّ.

‏توظيفُ اللغةِ؛ جزءٌ من «الوعي» بها، حيث الوعيُ وحدهُ قادرٌ على تحديدِ إمكانيةِ الاستفادةِ من الكَلمات؛ أيُّها ينبغي إهمالهُ، وأيُّها ينبغي استعمالهُ! وهي عمليةٌ ملازمةٌ لكتَابة الشِّعر، إذ يمارسُ الشاعرُ التبديلَ، والتَّغيير، والاختيارَ، والتفضِيل بين لفظَين، أو عِبارتين، أو صُورتين.

الوعيُ بالقصيدةِ وعيٌ باللغةِ، فحينَ يتجهُ وعيُ القصيدةِ إلى جَمالياتها ودِلاليَّاتها، يتجهُ وعيُ اللغةِ إلى وظيفيَّتها، ثم ينتقل لاحقاً إلى جَمالياتها، مترافقاً مع زيادةِ الوعي، وارتفاعِ الحساسيَّة باللفظ، وهو ما يقودُ إلى إدراكِ: أنَّ الوعيَ باللغةِ سابقٌ على الوعي بالقصِيدة! وبهذا يكُون وعيُ الشَّاعر لاحقاً لوعي الإنسَان «العادي»، وتابعاً له في الأنماطِ العُليا من التَّفكير، واستخدامِ اللغة، والتلاعُب بألفاظِها.

الإنسانُ العادي هنا؛ هو كلُّ قارئٍ للشعر، متلقٍ لكلماتهِ، وألحانهِ، ومشاعرهِ، سابقٍ في وجوده على الشَّاعر، مشتركٍ معه في التوظيفِ العُمومي للغة، وجزءٍ من التوظيفِ الخصوصي، ومفترقٍ في التوظيفِ الشَّخصي المميِّز للفرد عن غيره، حيث الوعيُ بينهم مختلفٌ، مفترِق، متعدِّد، وهو ما يشير إلى أهميَّته، ودرجَته، وخصوصيَّته، وإمكانيةِ «زيادته، والارتقاء به»!

‏زِيادة الوعي، والارتقاءُ به؛ خاصٌّ بالشَّاعر، وعامٌّ للمتلقي، فالشاعرُ مهما أتعبَ نفسَه، وأجهدَها؛ بحثاً عن طرقٍ وأساليبَ غير مُتداولة، ولا مألُوفة، تكسرُ الأنماطَ اللغويَّة المتعَارفة؛ يعودُ في النهايةِ إلى نقطة «الاعتياد والتكرار»، حيث الإكثارُ من ممارسةِ طريقةٍ معيَّنة أثناءَ الكتَابة؛ تجعلهُ أسيراً للعادةِ والطَّريقة، فيأخذُ بتكرارِ نفسه، حينَ لا يعودُ لديه جديدٌ يقدِّمه للمتلقي؛ الذي هو أوسعُ وأشملُ من فرد، لكونه يمثِّل جميعَ المتكلِّمين باللغة، والممارسِين لها.

السقوطُ في فخِّ التكرارِ والاعتِياد؛ آفةٌ تُصيب الشُّعراء، دُون استثناء، لا فرقَ بين مشهورٍ ومغمُور، أو كَبير وصغِير، أو مُبتدِئ ومُنطلِق، ولمجاوزتِها ينبغي زيادةُ الوعي، والارتقاءُ به، ولن يتمكَّن شاعرٌ من زيادةِ وعيهِ باللغة؛ إلا عبرَ «قراءات مكثفة ومستمرة» لمستجدَّات الثقافةِ والحيَاة؛ حيث المداومةُ على القراءاتِ القدِيمة؛ تقودُ إلى الاعتياد، الذي بدورهِ يُعمِّق الآفةَ، وينمِّط الكتَابة، فتغدو أشعارُ اليوم؛ كأشعارِ الأمس، وما قبلَ الأمس.

Trending

Exit mobile version