اعتنى النص التأسيسي بآدمية وإنسانية الإنسان، دون إقحام في أدلجة فارزة، أو تسييس مُوحش، وجعل من العقل وسيلة معرفة وإدراك وتحليل لتعزيز التواصل مع الآخر على مشتركات تؤمن بمكانة العلوم، وتُعلي شأن البحث، وترفع مقام طرح الأسئلة، ولا تنشغل بتوفير الإجابات، فغدا التراث الإسلامي الأوّل بالطرح الصافي القائم على النص التأسيسي نواة إسلام العصر الذهبي.
إلا أن الحال لم يدم طويلاً، فالانزياحات المتوالية عن الأرضية الأولى، والابتعاد عن المكوّن الصلب أوقع في أرضيات هشّة، وأقحم في أتون هالك، وورّط في مستنقعات لم تسجل مخرجاتها سوى صراعات دامية واحترابات على السُّلطة انطلاقاً من مرجعيات تؤجج تعصّب أفراد ومجموعات كل يرى نفسه أحق بالحكم.
وبقدر ما ينشغل المسلمون بأمور السُّلطة، لاهين عن مشروعات العلم والمعرفة بقدر ما يقعون في أزمنة انحطاط لا يتجاوزونها بسهولة، ويظل الجمر متوارياً تحت رمادها وقابلاً للاشتعال، بقدح شرارات المذهبية، وصب زيت الطائفية، فزاد التعصب والتطرف والتحجر والدوران في محيط مظلم لا خلاص منه إلا بمزيد الغرق فيه.
ولعلّ المفكر العربي محمد أركون أوّل باحث معرفي شخّص عقدة الأزمة التراثية المستعصية، ودعا بالمنهج والمصطلح المقتدر عليهما للتحرر من إرهاب اللاهوتيين المزمن، والانفتاح بالتسامح والقبول بالتعددية وعدم التعصب.
وفرّق أركون بين إسلام العصر الذهبي، الزاهي بالأخلاق الإسلامية – الفلسفية النبيلة التي بلورها كبار مفكري العصر الذهبي من معتزلة وفلاسفة، وبين إسلام عصر الانحطاط المتسبب في الموجة الظلامية التي لا علاقة لها بالأخلاق ولا بالنزعة الإنسانية، وتطلّع لتحرير الفكر العربي من السجن الدوغمائي المغلق، والخروج من العقلية الأيديولوجية والطائفية الضيقة. التي زادت عن حدها فأودت إلى تحجر، فتعصب، فإرهاب.
وعدّ أركون إسلام العصر الذهبي المجيد، منفتحاً على الآخر، ومرناً في الأخذ بالعقل والنقل، والفلسفة والدِّين، فاحترم أتباع الديانات ورعى حقوقهم ولم يجعل من معتقدات الناس أو مذاهبهم مناط أو مدار منحهم حقوقهم، كونهم ليسوا مسلمين أو على غير ملّتنا ومذهبنا.
وبشّر أركون بفشل كل الخطابات والمحاولات الخالية والمتخلية عن الأنسنة كونها تحمل مفاهيم للإسلام غير صالحة لهذا العصر، وأكد قبل رحيله في آخر ندواته أن المستقبل للإسلام الحضاري المستنير المتصالح مع عصره الذهبي، والمتماهي مع أحدث ما تنتج الحداثة العالمية.