علاقة إشكاليَّة تجمع النص بالمتلقِّي، النصُّ هدفه الإقناع؛ لذا استعان بطرائق الاستدلال والتعليل والتمثيل والإسهاب في الشرح، وكلُّ ما له علاقة بإلقاء الحُجَّة وتثبيتها، أمَّا المتلقِّي فمُستقبِل لكُل الحُجج والبراهين؛ الهادفة إلى إحداث تغيير ضمن بنيته العقلية، أو السلوكية.
النصُّ ليس واحداً، إذ ينقسم إلى: نصوصٍ علمية معرفية؛ هدفها التدليل على معلومة، أو ترسيخ نظرية وإثبات برهان، ونصوصٍ أدبية جماليَّة؛ هدفها إثارة الانتباه، والإشعار باللذَّة، متخفِّية خلف عاطفة رقيقة جياشة، كما في الشعر والرواية والقصة والمسرح والسيرة والخاطرة، ولو توسعنا فنيًّا ستُضاف الفنون البصرية والتشكيلية والسينمائية.
اختلافُ النصوص وتنوُّعها ما بين المعرفية والاجتماعية والنفسية والثقافية والفلسفية والفكرية والتاريخية والأدبية وغيرها، أدَّى إلى اختلاف وتنوُّع المتلقِّين، فلكلِّ نوع كتابي متلقٍّ أو أكثر، وهذا ما دفع (ياوس وآيزر) إلى محاولة إحصائها وجمعها ضمن نظرية أشمل، هي «نظرية التلقي»؛ الباحثة في كيفيَّة تلقِّي العمل الكتابي من قبل القارئ، راسمةً في الأثناء العلاقة الممكنة بين كل نوع من أنواع القرَّاء والنص المقروء، مبينةً أنَّ الهدف يتمثَّل في الوصول إلى معنى النص وفهمه.
اللافت ضمن نظرية التلقِّي أمران؛ الأول: تركيزها الكامل على حصول الفائدة؛ أي أنها تعتبر النصوص «رسالة»، ينبغي إيصالها إلى «مُرسَل إليه»، بواسطة «مُرسِل»، حيث تحتوي على «شِفرة»، بإمكانِ المتلقِّي تفكيكها، بناء على ثقافته ومعرفته وخبرته، الثاني: إهمالها الوظيفةُ الجماليَّة.
ما أهملته نظرية التلقِّي سبق وناقشه وأكَّد عليه (رومان جاكبسون)، الذي يعود إليه الفضل في رَفد الدرس النقدي بمجموعة من التحليلاتِ النصيَّة، التي بيَّنت الوظائف الست للغة، ومن ضمنها الوظيفة الجماليَّة أو «الشعريَّة»، حيث عدَّها من أهمِّ وظائف اللغة، إنْ لم تكن أهمها؛ لأنها لا تكتفي بنقل «رسالة» بين مرسِل ومستقبِل فحسب، وإنما تنقل شعوراً وإحساساً بالجمال.
وظيفية (ياوس وآيزر) وجماليَّة (رومان جاكبسون)، رغم أنهما نظرتا إلى النص والمتلقِّي من زاويتين مختلفتين، إلا أنهما توصلتا إلى النتيجة ذاتها؛ إذ رفضتا أن يكون الكاتب «العارف الأوحد» بمحتوى وقصد النص، مستبدِلتَين ذلك بالمتلقِّي؛ الذي أصبحَ قادراً على توجيهِ الدلالة، بحسب ما يتوفَّر لديه من أدوات وخبرات وثقافة.
وفق النظرة «المكيافيلية»؛ علاقة النص بالمتلقي تنحصر في المنفعة، فلا بد لإنشائه من هدف، وهي نظرة قاصرة وسطحية، في مقابل النظرة الأعمق والأكثر حميمية، التي ترى النص جزءًا من وجود الإنسانيَّة ذاتها، مؤكدةً أنَّ للنصوص تأثيراً على المتلقِّي، سواء بالسلب أو الإيجاب، لاحتوائها عاطفة جيَّاشة، ولغة سيَّالة، وتشبيهاتٍ مدهشة، وصوراً رائعة، رغم أنها لا تضيف جديداً على المستوى المعرفي.
للكاتب الحقُّ في رَفد نصه بمجموعة متنوعة من المعارف والعلوم، وكذلك بمجموعة متنوعة من الأساليب اللغوية وطُرق استخدامها، لكنَّ ذلك كلَّه؛ لن يكفل مكانة عالية للنص في نفس المتلقِّي، إذا لم يحدث انسجامٌ بينهما.
في مقابل حقِّ الكاتب يأتي حقُّ المتلقِّي في قَبول أو رفضِ النصوص، فما لا يتوافق مع ذائقته، ولا ينسجمُ مع بديهياته؛ مصيرُه الإبعاد والنبذُ، أمَّا ما انسجمَ معها، فسيتلبَّسُ روحَه، ويصلُ شِغاف قلبِه، ويستقرُّ داخل ذاكرته، ليؤثرَ على سلوكياته وكلماته، وهي أقصى غاية يمكن لنص أن يطمح إليها.
العلاقة المثاليةُ تتمثَّل في «الصَّداقة»، فكما في الحياة علاقاتٌ؛ تتدرج ما بين المحبة والعداوة، كذلك بين النصوصِ والمتلقِّين علاقاتٌ؛ تتدرج ما بين القَبول والرفض، فإذا أُعجب المتلقِّي بنصٍ؛ اتَّخذه صديقاً، يعود إليه ويأخذ منه، وإذا لم يُعجب به؛ تركَ صداقته، وابتعد عن الاستشهاد به، وبكاتبه.