تَخلصُ المؤلفات الفلسفية التي حوت شروحاتٍ وقراءاتٍ تُعنى بعلاقة اللغة بالفكر والمنطق إلى القول بحتميتها، وتعزو عظم أهميتها وقدرتها المستمرة على استقطاب الضوء إلى ارتباطها الوطيد بالتفكير البشري، كما هو بروزها كمحط بحث وموضع جدل فلسفيين اتسعا تحليلاً وتأويلاً ليُشكلا تياري «التحليل المنطقي للغة» و«فلسفة الاختلاف» اللذين منحا الفلسفة النظريتين الأغنى وما تفرع عنهما في تفسير الرموز اللغوية وعلاقتها بالعالم، ليس باعتبارها نظاماً معقداً من العلامات يستدعي استقصاء أثره وطريقة عمله فحسب، بل كمفتتح للوعي وأداة للكشف ومدخل لتجديد النظر نحو الفلسفة ذاتها، ما خلق متسقاً رحباً تتخلق فيه أسئلة متسعة في حذاقتها ودقيقة في مآلاتها لم تكد تطرح حتى تدفقت نحوها الإجابات النابهة، تلك التي لا أحسب أن من بينها ولا من بين أولئك الذين أُخذوا بماهية اللغة وأولوا حقيقتها قدراً وفيراً من اهتمامهم من فاق إجابات الكاتب والفيلسوف النمساوي «لودفيغ فيتغنشتاين» ألمعيةً في منطقيتها أو تجاوزه نحو الشغف بالأحجية الأهم والإيمان بأن دورها لا يقتصر على خلق فضاءٍ للتعايش، وجسرٍ تعبر من خلاله الأفكار بل يتجاوزهما إلى كونها أساساً تبنى عليه العلوم وكوناً تنبثق عنه المعرفة.
ومن أجل أن يبلغ كشفاً مثيراً وأثراً قيماً يستدعي اقتفاءه، بذل لودفيغ جهداً سخياً لسبر أغوار اللغة واستجلاء غموضها وقد غمره إيمان بأن مهمة الفيلسوف هي أن يبذر الشكوك في السائد ويطارد رائحة التطلعات، فأفصح بدءاً عن اعتقادٍ جمعي متوجس عبر عنه الفيلسوف الفرنسي ورائد المقالة الحديثة في أوروبا «ميشيل دي مونتين» في الكتاب الثاني من مجموعته «مقالات» بقوله «إن عجز الفلاسفة عن صياغة أفكارهم بأي صورة كلامية كان لأنهم بحاجة إلى لغة جديدة» ولكنه لم يلقَ في أوساط فلاسفة عصر النهضة الفرنسي من يوليه عنايته.
لقد كان ليقين فيتغنشتاين بفاعلية اللغة أن يدفعه لإدراك أن الوعي ما هو إلا نشاط رمزي لغوي يرتبط بموجودات عينية تشكل العالم، وعبر نظرية تجريدية للغاية ضمنها مؤلفه الشهير مصنف منطقي فلسفي (Tractatus Logico Philosophicus)، ربط بين عناصر اللغة ومكونات العالم ومن خلال تحليله بنيتي العالم واللغة خلص إلى أنهما يملكان منطقية متشابهة ومتقابلة تمثل فيها الأسماء صوراً للأشياء، فيما تتسق الجمل لتصور الوقائع، ما يعني أن اللغة هي مرآة ترسم الأشياء على هيئة رموز لغوية، ومكونات العالم هي الثمثُل الصريح لعناصر اللغة وأي استخدام للغة خارج هذا الإطار هو استخدام تعسفي وغير مشروع وبلا معنى وأيما قضية لغوية تصف ما ليس موجوداً في الواقع فهي عبثية وبلا قيمة.
حينذاك كانت وثبةً فلسفية ونظرية مدهشة إلى الحد الذي بدا وصفها بالمثيرة للاهتمام ضرباً من الإجحاف، لقد بدأت كشعاع شمس ضئيل أخذ يتسع حتى أضاء الكثير من المناطق المعتمة ومنح الجميع رؤية أكثر شمولية ووضوحاً.
لم يعزز أحداً كفيتغنشتاين فكرة أن اللغة هي مركز الدائرة التي تدور في محيطها الحياة والعلوم والفلسفة وبوصفه الوشيجة الخفية بين العالم واللغة برابط التماثل والتطابق لم يشعل ثورة فلسفية فحسب، وإنما سنَّ قانوناً ظل قائماً إلى أن هدمه بنفسه، وشرع نافذة أطل من إطارها فلاسفة الوضعية المنطقية على أفق رحب كانت تجوبه الكثير من النظريات عُدت لاحقاً كأعمال تدور في فلك الأفكار التي أطلقها فيتغنشتاين، فأتت فلسفة الذرية المنطقية للبريطاني برتراند راسل كأحد أبرز الأمثلة التي نُظر إليها كفكرة ظلت طريقها نحو رأس أخرى.
إن نظرية الصورة في المعنى لم تكن وليدة مخيلة واسعة أو صدفة محضة، بل كانت نتاج تأمل دقيق وحاذق وعمل جاد ودَؤُوب ورغبة ملحة في أن يُفهم على أي نحو تسير اللغة والعالم ولذلك جاءت صلبة وعصية على المحاججة.
لقد بدأت كنطفة تحوي خليطاً من الأفكار وظلت ملتصقة بمخيلة فيتغنشتاين حتى صياغتها ثم استغرقت أعواماً تلتحف عتمة حقيبته التي خاض غمار الحرب العالمية الثانية وهي تمتطي كتفيه وتنتقل معه من خندق إلى آخر لترافقه سني أسره قبل أن يطلق سراحها وإياه لتنال فرادة النظرية التي ولدت تحت أزيز الرصاص وتنفست رائحة المعتقلات ومنحت جدوة الفلسفة شعلة مثيرة.
بيد أنها وبقدر ألمعيتها لم تجب متسائلاً عما إذا كان بمقدور اللغة أن تستدعي إلى مخيلة القارئ صورة دقيقة لمعنى ورد في نص روائي أو شعري ومطابقة تماماً لتلك التي خرجت من مخيلة الكاتب أو ذاكرته؟
تفترض سيرة فيتغنشتاين أن تساؤلاً كهذا قد تبادر إلى ذهنه فأعاده إلى مضمار الفلسفة بعد أن ظل زمناً غير يسير يعتقد أنه قد ظفر بحل مثالي لمشكلات الفلسفة، «فمعظم الأحداث لا يمكن التعبير عنها بالكلمات» كما يذكر الشاعر الألماني الشهير راينر ماريا ريكله في إحدى رسائله التي بعث بها إلى فرانتس زافر كابوس وهي العبارة التي لا يُظن بأن لودفيغ قد قرأها ولكنها تصف ما أجزم أنه دار في خلده قبل أن يتشكل ما يمكن وصفه بفيتغتنشتاين اللاحق الذي ذهب إلى محاججة نظريته الأولى وإسقاطها بأخرى لا ترى أن للغة منطقاً وحيداً بل تصف ذلك بالطرفة الغريبة وتعتبر أن اللغة هي مجموعة من الممارسات لا تتطابق، ولكنها تتشابه في بعض سماتها على نحو مركب كما أن كل منها تمتلك منطقها الخاص الذي يحتفظ لها بحق سن قوانينها الخاصة التي لا تخرجها من إطار «التشابهات العائلية» المصطلح الذي ارتأى لودفيغ أن يطلقه على جوهر نظريته ويضمنه المؤلف الذي صدر بعد رحيله ووسم بتحقيقات فلسفية Philosophical Investigations.
إن حيز اللغة في أذهاننا يتسع لما هو أجل من الموجودات العينية وأعظم من الكيانات الذهنية، ولذلك فإن ما يتبادر إلى ذهن القارئ حين يتأمل الفرق بين أثر الكلمات المسجعة والمتسقة التي يبدو ألقها مثيراً ومنضبطاً ليس كذلك الذي ينتابه إزاء التي تأتي كتكتلات دخانية تخترق الروح وتمتزج بها حتى تقر في شغافها وتضع بصمتها في تشكيل عاطفتها وتشترك في صناعة انفعالاتها بيد أن حالة من اللا اكتراث بعاطفة اللغة تنتاب الفلاسفة فتحول دون رؤيتهم إياها كما يفعل المصابون بالقراءة، ولكن فرادة فيتغنشتاين تكمن في استطاعته التعاطي مع اللغة بوصفها كائناً يملي على مبتدعه شعوره الخاص ويبني أفكاره بأناة ويبقيه متكئاً على يقينه، فاللغة لا تصف ما نفكر فيه فحسب بل ترتب الأفكار المزدحمة في رؤوسنا وعبر آلية خفية أسفل بريقها السطحي تتصل بأرواحنا وتجذب اضطراباتها إلى خارجنا.