ثقافة وفن

الفارس الذي فتح أحواش المدينة

ما بين التاسعة عشر أو العشرين من عمره خرج من مسقط رأسه المدينة المنورة إلى الرياض العاصمة، يحمل في كف يده اليمنى

ما بين التاسعة عشر أو العشرين من عمره خرج من مسقط رأسه المدينة المنورة إلى الرياض العاصمة، يحمل في كف يده اليمنى الأحلام وفي كف يده اليسرى طموحات، فضرب بعضهما ببعض فكانت بداية الرحلة.

لم ينظر وراءه، فالفارس لا ينظر للخلف حتى وإن عانقت جسده قبلات الرماح أو دغدغة السهام أو حتى مست أحجار صدره، وصل للعاصمة لربما امتلكته حيرة السكن الدراسة العمل، التوفير الاقتصادي إذ كان يخطو مسافات حتى يوفر قليلاً من القروش.

وهنا كانت بداية قصة كسر العزلة، وإثبات الذات وموجهات الأحداث والتجارب والحديث الجانبي لأصحاب الغيوم السوداء التي لا ظل فيها ولا ماء.

لم يأخذ معه من المدينة إلا قميصه الذي فيه رائحة المدينة وأهلها وناسها وذكريات الطفولة والألعاب مع أبناء الجيران وأشياء أخرى، اغرورق قلبه بالدموع وكان يرفض أن ترقص الدمعات بين العين والعين فهو فارس، والفارس لا ينزل من صهوة الفرس الا منتصراً أو شهيداً.

كان يمتلك خاصرة أقوى من خاصرة البحر الذي كان يمتص الملح في كل لحظة، وسيقاناً أقوى من سيقان الأرض التي تحملت خطوات كل أنواع واللون البشر والحيوانات، كانت بداية حكاية «اسم، وإنسان» حفر وما زال بقايا وسيبقى الكاتب والصحفي والقاص والروائي حسين علي حسين.

القاص السعودي العربي حسين علي حسين، يمثل تجربة قصصية مثيرة للاهتمام، الإنسان الذي عاش في ستينيات وسبعينات القرن الماضي في المدينة المنورة، راسماً تفاصيل المشهد المدني وصورته القديمة، كانت البداية مبكرة على الأدب العربي والعالمي، مشكلاً هويته الأدبية فاكتشف مبكراً الأدب العالمي، ومن الطبيعي أن يتوقف أمام روايات عالمية.

كانت له علاقة خاصة مع الكتاب العربي مثل، إحسان عبدالقدوس، وحنا مينا، والطيب الصالح وغيرهم.

قدم حسين علي حسين، عدداً من المجموعات القصصية وعن «الرحيل» كتب ما يوجع، وعن موسيقى «الرجل الخائف المطارد» أبدع، ولم ينسَ «طوابير المياه الحديدية»، وعن النماذج المليئة بالحرارة والرطوبة ورعشة الأيام المقبلة والماضية والحاضرة في «كبير المقام»، وعن النهايات الحائرة في «رائحة المدينة» وعن الأولاد والزوجة في «المقهى».

وفي روايته «وجوه الحوش» كشف الكثير من الأسرار والألم والجروح، شيء لربما يسمى المسكوت عنه.

حسين علي حسين يشبه نجيب محفوظ في حبه للبيئة، ويتعالق مع زكريا تامر في الوجع والبحث عن الهوية والأحلام التي ما زالت معلقة بين السماء والأرض، ويتقابل مع الروائي أمين معلوف في أخذ القطعة التاريخية ودمجها بين الحاضر والماضي والإسقاطات الموجعة.

رأى النقاد أن أعماله القصصية تشي بنضج فني، وسياق قصصي منفتح على أفق واسع. بالإضافة إلى كونها تقدم مقاربات مهمة في سياق الانكسار والحزن والاغتراب.

يقول في إجابة عن سؤال في إحدى اللقاءات الصحفية عن أجيال القصة القصيرة في المملكة:

– الجيل الأول من وجهه نظري يمثله أحمد السباعي، وبعده يأتي جيل عبدالله الجفري وإبراهيم الناصر، وجيلنا أعتبره الجيل الثالث، وفيه الكثير من الأسماء اللافتة، ولكن أغلبهم -للأسف- توقفوا. ومن هؤلاء سليمان سندي وعبدالله السالمي. بقي هناك الآن محمد علوان وعبدالله باخشوين، بيد أن الجيل الذي بدأ بعدنا لديه همّة أكبر وعزم لا يلين، وهذا ما يجعلني أطمئن إلى أن القصة القصيرة ما زالت قادرة على خوض سباق المسافات الطويلة.

القاص حسين علي حسين يعترف أنه من جيل الهزيمة، فعندما سئل عن أن غالباً ما يلف شخصيات قصصه القلق المأساوي، والعزلة، والإحباط.. ولماذا تتداخل عناصر القمع والانكسار في حكاياته القصصية؟

– قال وهو يمسك قلمه كفارس ما زال يقف على فرسه وسط صحراء.. أو كطائر بين السماء والأرض تعلو رأسه أحجيه كتبتها جدته فيها صورة لامرأة ورسمة لفتاة تحاول أن تكور جسدها لتخبئ كنزاً ما.

يقول في الإجابة: أنا من جيل الهزيمة التي سموها نكسة، هذه الهزيمة مع الجهل والقمع والافتقاد للحريات أفرزت جيلاً من الكتاب. هذا الجيل سوف يظل على حاله؛ لأن الضوء في شرقنا العربي ما زال شحيحاً، والمطرقة ما زالت على الرأس. مهمة الكتّاب الإشارة إلى ذلك للوصول إلى مجتمع يشبه مجتمع العالم الراقي، حيث لكل فرد كيانه واستقلاله وحصته في الماء والهواء والجامعة والمصنع والأرض. ما يطلبه المواطن العربي ليس ترفاً إنه حاجة، ومهمتنا أن ندل على هذه الحاجة.

يقول القاص فهد الخليوي عن الفارس حسين علي حسين: الصديق العزيز تربطني معه صداقة قديمة بدأت منذ منتصف السبعينيات الميلادية تقريباً، جمعتني بأبي شادي هموم الكتابة وخاصة الكتابة الإبداعية، إذ شهدت تلك المرحلة الأدبية حضور القصة القصيرة كإبداع أدبي تجاوز الحكايات التقليدية المسرودة بغرض التسلية إلى صياغة تلك الحكايات بأبعادها الاجتماعية والإنسانية لتصبح قصصاً قصيرة ذات تقنيات فنية حديثة وإيقاعات معبرة عن روح العصر الجديد الذي كنا نعيش على أطرافه كمتفرجين سلبيين بسبب هيمنة تيار الفكر الإقصائي في بلادنا الذي نجح في تلك الفترة بتحجيم كل الأفكار التنويرية على كافة الأصعدة وليس على صعيد الأدب المحلي الحديث فحسب.

فيما قال عنه الدكتور منصور الحازمي «يبدو أن أبطال حسين علي حسين مغرمون بالتسكع لا تراهم إلا على الأرصفة وفي الحواري القديمة والأحياء الشعبية الصميمة»، وأجده في كوكبة الجيل الذهبي للقصة القصيرة الذي قال عنهم شاكر النابلسي «استطاعت من خلال جهدها الفني القصصي الكبير أن تؤسس للقصة العربية الحديثة في السعودية».

عن رواية وجوه الحوش؛ التي هي قطعة فنياً وتاريخياً مهمة جدّاً للباحثين والدراسين، فهي كهدية لأبناء الوطن أن هناك حدث شيء بل أشياء لا بد من التوقف عندها.

– تبدأ الرواية بفصل يحمل عنوان «وجوه الحوش» يوضح بشكل عام حال المدينة في فترة حكم الأتراك، داخل أحواش المدينة وبالأخص حوش الآغا. يليه خمسة عشر فصلاً معنونة بأسماء شخصيات سكنت الحوش أو مرت به وتركت أثراً على أصحابه.

عمل توثيقي مهم للمدينة قديماً فيه شرح لحواري وشوارع المدينة واتجاهها عن الحرم وساكنيها، العادات والألعاب الشعبية المتداولة حينها، أطياف الناس وصنعتهم.

يقول الدكتور محمد الدبيس عن رواية (وجوه الحوش):

أجاد الكاتب في إضاءة خفايا تلك المرحلة وانعطافاتها، والمجهول والمسكوت عنه فيها، وانحاز إلى معجمها التداولي في شؤون الحياة بتفاصيلها وجزئياتها الدقيقة، ومزاجها النفسي والفكري، فصوَّر البنية المعمارية لمجتمع الأحواش وتقسيماتها الهندسية وأحيزتها، وأشكال البيوت والدور والحمامات وتقسيماتها، وعناصر الحياة المادية وضروراتها، ورسم بدقة صورة بانورامية لبيئة شخصياته، ومسارات التوتر فيها، وأنماط العلاقات الاجتماعية ومستوياتها وما يعتريها من منغصات.

كما تناول الجوانب المشرقة في تلك البيئة؛ علمياً وثقافياً وإنسانياً، في السياق النصي للأحداث، الذي اعتمد جانب الوصف السردي في جلِّ الرواية، التي تخلَّل فصولها وسياقاتها النصية حوارات محدودة بين الشخصيات.

ويختم الدكتور الدبيس حديثه عن الرواية.. حكاية الأحواش الطويلة التي صاغتها رؤية حسين علي حسين، وهو ينقب في الذاكرة والتاريخ والموروث الاجتماعي، ليعيد الأحواش للحياة، ويعيد الحياة إليها، ويتتبع بمنظوره الفني والإنساني حياة الأحواش وحياة الناس في الأحواش، كما لم يفعل ذلك روائيٌ قبله.

في الختام أقول إن من مميزات القاص حسين علي حسين وعناصر قوته في نصوصه القصصية هي الكاميرة التصويرية الرائعة التي تجدها في تصوير شخصيات أعماله يمتلك حالة يجعل القارئ متابعاً بشكل مستمر وبلهفة للشخصيات وحركاتها وحواراتها ونهايتها وكأنه مخرج سينمائي يجعل المشاهد مستسلماً للقطة السينمائية حتى النهاية.

استطاع القاص حسين علي حسين في نصوصه القصصية أن يطبق السرد القصصي بطريقة ممتعة للمتلقي، بل وقام بتطبيق تعريف السرد القصصي كما يعرف وهو الحكي الذي يقوم على أساسين: المحتوى الذي يضم الأحداث، والطريقة التي تحكى بها القصة «الطريقة هي السرد»، فهو الكيفية التي تروى بها القصة عن طريق السارد للمسرود له، بما تخضع له من مؤثرات تتعلق بكل من السارد والمسرود له، وهو الحالة التي ينقل فيها موضوع القصة من صورته الواقعية إلى الصورة اللغوية.

وقد كان بارز استخدام القاص الفن التفاعلي، إذ تُستخدم فيه الكلمات والأفعال بطريقة تكشف عن عناصر وصور النص الأدبي، لتشجيع عقل المستمع أو القارئ وإثارته، وهو شكل من أشكال الفن التعبيري القديم.

وكان مميزاً أيضاً في الإثارة وتفاعل القارئ مع الشخصيات، وهو السحر السردي الذي يقوم به القاص في نصوصه القصصية.

وقد استخدم القاص أيضاً التفاعل الثنائي الاتجاه بين السارد والمسرود له من خلال الربط المباشر المحكم بين الطرفين.

وأيضاً كان بارعاً في استخدام اللغة التعبيرية التصويرية لإيصال الفكرة والهدف والمعنى.

وقد أتقن القاص باستخدام الإجراءات مثل النطق والحركة والإيماءات، من خلال النص، عندما يستطيع القاص أن يجعل من القارئ شريكاً في النص وتكون أنت كقارئ من ضمن الشخصيات في النص، وأقصد هنا أنك تعيش الحالة وكأنك داخل النص تراقب تنتظر تتوقع تتفاجأ، وهو ما يفعله القاص في نصوصه.

نجح القاص باستخدام الأشكال الفنية مثل العاطفة المختبئ أو العاطفة الواضحة، إسقاطات لكثير من الماضي على الحاضر والتعامل والتعايش بين البشر وكأنه يهدف إلى إيصال رسائل لعالم سلخ نفسه من الأخلاقيات والتعامل مع الآخر المختلف معك في بعض الأمور ونسى أن الإنسانية والخلق تجمعانا.

وقد قام القاص ببراعة تصوير الحالة الإنسانية والحالة القروية وشيء من العلاقات التي تربط الناس والتداخل فيما بينهم بالمحبة والسلام دون أي عوائق، وكأن القاص يريد أن يقول كنا هكذا نعيش دون حروب مباشرة أو غير مباشرة.

وأتصور كقارئ عادي أن قصص حسين علي حسين ما بين الخيال الخصب الذي لعب دوراً أساسياً في أن يكون النص واقعاً حياتياً عاشه البعض ولربما عاشه القاص.

تشعر أن القاص في نصوصه يتحمل أن تتكسر أضلاعه ولكنه لا يتحمل أن يسمع صوت أضلاعه تتكسر، فهو لا يتحمل أينما يولي يجد التخلف والجهل والبحث عن الإنسانية والهوية الضائعة بين الأجيال.

من يطلع على النصوص يكتشف أن الشخصيات لم تكن حقيقية، هي رموز حتى يكسر من خلالها الزمن ويفقد الزمن التراكم، وقد استطاع القاص أن يريني كقارئ عادي تناقض الإنسان في حياته وعمله وأحلامه.

القاص يمتلك فلسفة خاصة في خلق نصوص يغلب عليها الفكر في مناخ يلف العالم، بل وتتخطى اللحظة الراهنة وتنتقل إلى عالم آخر، في بعض النصوص تستشعر أنه كاد أن ينسى أنه في هذه اللحظة قاص، وفي لحظات يكاد يكون ناقداً ولكنه يعود إلى سيرة القاص بطريقة فلسفية فكرية إلى مجتمعات غاصت من قدميه حتى الرأس في فساد يجر فساداً في مجتمع يعاني من التناقضات.

أستاذ حسين ما زالت تلك النجمة التي كانت تضيء لك طريق الخروج من مسقط رأسك إلى مسقط أحلامك هل تعلم أنها النجمة العشرين الذي كان جدك يريد الإمساك بها؟!

أو كما يقول ابن تاروت الشاعر الأستاذ مهدي بن حسين في نصه الشعري «الكادحون»..

«يحكى أن جدّي انسلّ من فراشه ليلاً، ليكلّم النجمةَ العشرين..

لقد اعتاد ذلك، إنه يحدّث النجوم نجمةً نجمةً كلّ مساء حتى تظنّه يعرفهنّ»..

Trending

Exit mobile version