يخوض الكاتب المستقل خالد بن عاذي الغنامي، غمار التراث، وينتقل إلى الحداثة، والفلسفة، والتصوف، لا يخشى البلل، ولا يغامر حد الغرق، أو حرق المراكب، لكنه مهجوس بتوظيف تيارات الأمواج لتوسيع دوائر الضوء بالطاقة النظيفة، ولا يشغل باله كثيراً بردود فعل الينابيع المُظلمة، يرى في كل كائن كوناً، ويحاول جاهداً لفت انتباهنا إلى طُرق السعادة، ليكون الكون أكثر أمناً وتنمية، وهنا حوار أقرب للمراجعة مع أحد أهم رموز الثقافة المعرفية الناقدة دون نقمة على أحد..
• بماذا تعرّف نفسك؟ وبماذا توصّف اشتغالاتك اليوم؟
•• لا أعرف سؤالاً أصعب من هذا السؤال، فلطالما كان الحديث عن الذات صعباً، فإن اجترأنا عليه ترددنا بين المحاذير، إطراء الذات فوق ما تستحق، أو ظلمها لنظهر بمظهر المتواضع. لكن يمكن القول إنني كاتب مهموم بوجوده أشدّ الهمّ. ولذلك كنت أقرأ وأكتب في مضمار الدين، واليوم أكتب في مضماري الفلسفة والتصوف، بحثاً عن إجابة، بحثاً عما ينشده كل البشر: السعادة. أظن أن هذا من النجاح، أن نختصر المسافات، لنقول إن السعادة الفردية التي تتحول تدريجياً إلى جلب السعادة لأكبر عدد من الناس، هي الموضوع الجدير ببذل معظم الجهد.
• ما أثر التكوين الكلاسيكي على خالد الغنامي؟
•• لا أقول جل، بل كل الفلاسفة العظماء نشأوا في البداية نشأة دينية صارمة، كنْت وهيغل وهايدغر، وأسماء لا تنتهي، خصوصاً الألمان. لقد أوقد الدين فيهم نار التوق والشوق إلى المطلق، فبقيت فلسفاتهم مشغولة بالدين، معنية به. لا شك أن التكوين الأول بالغ الأثر على أي مفكر، خصوصاً إذا كان التأثير الأول دينياً. لهذا أجدني مشغولاً بكل قضايا الدين، وفي ذات الوقت مشغولاً بقضايا الإنسان في هذا الوجود، بسعادته ورفاهه. وفي كل ما كتبت أحاول أن أجد طريقاً يؤدي إلى التناغم والتوازن، مع أن هذا لن يكون أمراً سهلاً.
• كيف نجحتَ في الثورة على التراث من داخله؟•• التراث فيه كل شيء، وبالتالي لا يمكن أن نثور عليه ثورة كلية. الذي يحدث أن الفيلسوف وأخاه المثقف قد يثوران على صور من التراث ويستبدلانها بصور أخرى من التراث، كما فعلتُ أنا منذ عشرين سنة بكتاب «جواز صلاة الرجل في بيته»، فتنظر البيئة التي أنتمي إليها إليّ وكأنني قد أحدثت قطيعة مع التراث، مع أنها ثورة محدودة في إطار إقليم، وليست ضد كل التراث. ما الداعي لهذه الثورة الإقليمية؟ لا شك أنه التناقض، عندما تبصر في منظومتك تناقضاً، فتسعى لا لردمه كما يفعل رجل الدين، بل تحفر زيادة كما يفعل الفيلسوف. لماذا تحفر؟ لأن الزيف لا يستحق أن تدافع عنه. وهكذا تبرز القضية النقيضة التي ستدخل في صراع مع فكرك الأول، فينتج من الصراع مركب جديد وأفكار جديدة، وهكذا.
مجنون من يظن أنه سيهدم كل ما سبق ليستأنف من جديد. هو مخطئ تماماً. ولو نظرت إلى الفيلسوف الألماني نيتشه صاحب مقولة موت الإله، فستجد أنه رجل تراثي بامتياز لأنه في النهاية أعاد الناس إلى التراث الإغريقي الما قبل سقراطي، واقترض منهم أفكاراً تبدو لكثيرين خرافية للغاية، مثل نظريته في العود الأبدي، التي لا تجد دليلاً علمياً يدعمها. نعم لقد ثرتُ على تراثنا الإقليمي، لكن التراث العربي أوسع بكثير من أن يثور عليه أحد بالكامل، خصوصاً أن تراثنا يشترك مع كل التراث الإنساني وساهم فيه بدور فاعل. كل ما نستطيع فعله هو أن نفقأ دائرتنا الصغيرة لنجد أنفسنا نعوم في دائرة أكبر، وهكذا حتى ندرك أن الفروق التي يصطنعها البشر بين بعضهم ليست سوى أوهام، ومفاهيم اخترعتها عقولهم، وتحيز غير مبرر.
• ألم تشعر بندم على نقد الخطاب الديني، إذ يرى البعض أنك تراجعت بما يشبه الارتداد نحو الكلاسيكية؟•• كما يقول هيغل: كل فكرة هي قضية، وسيخرج من رحم القضية قضية نقيضة تصارعها وتحاول القضاء عليها، ومن هذا الصراع سيتكون مركب يحمل أفضل ما في الفكرتين. كيف لمن يؤمن بهذا أن يشعر بالندم على أي شيء؟! كل حياتنا الفكرية هي هكذا، صراع أفكار، على صعيد المجتمعات وعلى صعيد الأفراد. أنظر إلى نفسك اليوم وقارنها بنفسك منذ عشر سنين وستجد اختلافاً ليس بالبسيط. لذلك لا أستطيع أن أشعر بالندم، كما أنني لا أشعر بالتناقض. لم يحدث منذ أن بدأت في الكتابة أن شعرت بشيء من هذا. التناقض لا يخيفني لأنه الكاشف عن محيّا الحقيقة. هو شيء مرحلي زائل وموجود باستمرار. لكل إنسان أن يعتقد بما يشاء، وفي الحقيقة أن من يطرح مثل هذا الطرح، هو في الحقيقة يكرمني، لأنه ينطلق من اعتقاده بأني جدير بالاهتمام. لكن بالنسبة لي، لم أشعر يوماً، منذ أن بدأت في الكتابة المعلنة، بأنني رجعت إلى الخلف.
• ما علاقتك بالتصوف؟•• تصوفي ليس تصوف الطرقيين والخرافيين ودعاوى الكرامات. من يرجع إلى الكتب التي ترجمتها عن التصوف سيدرك ما هو التصوف. لكن سأقول هنا باختصار أن التصوف هو الوعي الثالث، وعي يختلف عن الوعي الحسي أي إدراكنا للأشياء بحواسنا الخمس، ويختلف عن الوعي العقلي الذي به ندرك أن الكل أكبر من الجزء. هو وعي يعتمد على الشعور وما يقع فيه بشكل مباشر، بلا حس ولا عقل. إنه المحطة الأخيرة التي نلجأ إليها عندما يتوقف قطار الأفكار في الصحراء بعد أن ينفد وقوده.
• هل عانيتَ من ضغوط، أو مؤثرات كان لها وقعها على تحولاتك؟ ولماذا هدأ طرحك باتجاه الصحوة في ذروة التوجه لإسقاطها؟•• لم يهدأ نقدي للصحوة، فكتابي الأخير (عوالم ابن تيمية) عبارة عن كتاب نقدي تفكيكي يجد طريقه ليكون نقداً ليس باللطيف لفكر الصحوة.
يمكن أن يقال إن الصدام الشخصي مع رموز الصحوة قد خف في السنوات الأخيرة، والسبب في ذلك أنه لم يعد هناك من يقول إنه صحوي أو حركي بعد كلمة المنقذ المخلّص المقدام ولي العهد محمد بن سلمان. كل الصحويين الذين أعرفهم أصبحوا يتحدثون عن الصحوة وكأنها بنت الجيران. اليوم ظهر لنا كم كبير من الأبطال الذين لم نسمع بهم قط ممن ينتقدون الصحوة ويزعمون أن الصحوة آذتهم، وهم أنفسهم صحويون يحاولون ركوب الموجة. نحن نعرف أن الذين دخلوا في مواجهة مع الصحوة هم مجموعة قليلة من الكتّاب، وأنا منهم، وكان يُنظر إلينا وكأننا مجموعة من المجانين الذين يجدفون عكس التيار وسيبتلعهم الطوفان. كثير ممن ينتقدون الصحوة اليوم كانوا يطبّلون لمشايخ الصحوة، وما زالوا في قرارة أنفسهم أتباعاً لفكر الصحوة ويفكرون بنفس طريقتها السجالية الإقصائية التي لا تؤمن بتشاركية المعرفة. هؤلاء لا يمكنني أن أساويهم بمن مستهم نار الصحوة فعلاً. الصحوة حاربتنا وسعت لفصلنا من وظائفنا وفصلت أناساً من وظائفهم فعلاً، وقطعت مصادر رزقهم. الصحوة دخلت بيوتنا عن طريق داعيات حملن إلى أهلنا فتاوى عن كفرنا وأنه لا يجوز لمسلمة أن تبقى زوجة لكافر. الصحوة أربكت أطفالنا بسؤالهم عنا وهل نصلي ونصوم أم لا. الصحوة أقذر بكثير مما يتصوره الإنسان غير المتمرد، وكنا نعي هذا وندرك أننا ولا بد سندفع ثمناً باهظاً هو راحتنا وراحة بيوتنا على مدى عقدين كاملين من الأذى والمكائد والدسائس.
إذا اتضح الفرق بين من نقد الصحوة يوم كان نقدها يعني أن تصبح حياتك كلها في خطر وأقل ما تلاقيه هو تشويه سمعتك بين الناس، ومن ينقدها يوم أصبح النقد برداً وسلاماً، فهنا أرحب بناقد الصحوة الجديد كائناً من كان. الكل مدعو لنقد تلك الكارثة التي سرقت منا حياتنا وضايقتنا في معيشتنا. لكن على الناقد الجديد أن يتصور الصحوة تصوراً صحيحاً لكي يعرف كيف ينقدها. الصحوة قديمة، إنها تعني جماعة دينية تخلط الدين بالسياسة، ولو أنها بقيت في المساجد لما استاء منها أحد. هي جماعات تمتد عبر التاريخ من زمن ما قبل الإسلام. جماعات تسعى لامتلاك السلطة بالكامل، أو للمشاركة فيها على الأقل، وتتغطى بأي دين موجود وتستغله. وهذه الجماعة تندحر وتعود إلى الكهوف عندما تكون السلطة في يد من يدرك خطر هذه الجماعات ويرفض التصالح معها، وكانت تعود وتزدهر عبر حقب التاريخ إذا توفرت لها الظروف المواتية وحين تجد الحلفاء. وبالتالي ليس لنا أن نقول إنها ستختفي للأبد. ستظل أبداً في محاولات متنوعة لا تتوقف للعودة. بالأمس القريب، أصدر أتباع الإرهابي سيد قطب نسخة جديدة من كتابه القديم (في ظلال القرآن) بعد أن نظفوه من نصوص التكفير، بدعوى أن عبارات التكفير لم تكن موجودة في الطبعة الأولى للكتاب، مع أنهم يعترفون بأنه هو نفسه من أضاف تكفير المجتمعات ودعا لاقتتال أبناء الوطن الواحد، بعد دخوله السجن. كيف يمكن أن نفهم هذا؟ إنها مجرد محاولة للمحافظة على المقاعد، بعد أن عرفوا أن التكفير أصبح ممجوجاً للغاية، وعندما تعود لهم القوة يمكن استعادة نصوص التكفير التي حذفوها من جديد. على كل حال، يجب أن يستمر نقد الصحوة فهي لم تمت ولن تموت، بل هي الآن نار تحت الرماد، وإن كانت الآن تعاني من انفصام في الشخصية، فالصحوي البسيط حالياً لم يعد يدري من هو.
• ما شرط إحراق المثقف للمراحل؟•• لننس قضية المراحل. السعودية كانت بحاجة لرجل مقدام هو محمد بن سلمان، الذي سما طموحه عن مجرد حياة الترف، ليشمر عن ساعديه في بناء دولة عظمى تكون هي مركز الكرة الأرضية كلها. مهمة صعبة لكنّ ولي العهد والسعوديين معه قادرون على تحقيق هذا الحلم.
• ما مشروعك الحالي؟ وهل تطلعنا على بعض ملامحه؟ •• صدر لي منذ شهرين كتاب طموح للغاية اسمه (عوالم ابن تيمية)، قمت فيه بتفكيك بعض تراثه، من خلال استخدام منهج هيغل (الديالكتيك)، وأن حربه مع رجال الدين الآخرين كانت حرباً على السجادة وليست بسبب أحكام الطلاق. وأنه لا يختلف عن أي واحد من رموز الإسلام السياسي الحركي اليوم، دخل اللعبة السياسية وخسر.