هناك رابط غير مرئي يؤلف بين الكاتب ومن كتب عنه؛ وربما تتقاطع شخصيات النقاد مع الرموز المحتفى بها، ربما يكون الدافع ذاتياً، أو موضوعياً، أو ما ورائياً، أو نفعياً، إلا أن المرجّح أن إقدام كاتب بقامة الدكتور عبدالله الغذامي، لتناول شعر الراحل حمزة شحاتة، بالتشريح، كان دافعه إنسانياً بحكم مساحة يتآلف فيه الناقد والمنقود ويلتقيان.
من اقترب من كتابة وحياة رمز الحداثة السعودية، (الغذامي) سيظهر له بجلاء أن (أبو غادة) كيان ثقافي، يجمع بين نصاعة الجوهر، وأناقة المظهر، وحُسن التعبير، ومهارة اقتناص الفكرة، وفن تتبع المشهد، ورصد ما يستحق التوثيق، والقراءة المُعمقة، وتقديم ما لم يصل للقارئ من مؤلف الكتاب أو كاتب المقالة أو مبدع الشعر.
اتخذ الغذامي من المحبة قانوناً منهجياً في التناول والمعايشة، بل عدّها المنطلق الضامن لنجاح أي بحث، أو أية مهمة، بدءاً من الزواج عن محبة، ومروراً بعلاقات العمل والوظيفة، وعلاقات الباحث مع موضوعه، وبنى على المحبة مشروع عمله، وجعلها شرطاً لبحوثه، ونصح بها طلابه.
لم يكن بين الغذامي وبين حمزة شحاتة صلة؛ فالأول نجدي، والآخر حجازي، ولا صداقة كون شحاتة رحل قبل أن يكتب عنه الغذامي، ودون أن يصله خبر رحيله، ولم تتوطد أواصر الشيخ بالمريد إلا في إجازة عام 1973 إثر عودة الغذامي من البعثة، فقرأ في الصحف عن وفاة حمزة شحاتة، ورثاء الفقيد بكلام تبدو عليه المبالغة الشديدة، وفيه حديث عن شاعر عملاق وكاتب عميق، وبعضهم صار يزيد في القول ويصفه بالفيلسوف، وكثير منهم جاءوا باستطرادات طويلة عنه وعن تميزه وعظمته مع لوم شديد على غفلة المجتمع عنه.
قرأ الغذامي وعجب مما قرأ؛ لا سيما أنه لا يعرف صاحب الاسم، ولا يجد له في نفسه رصيداً، برغم علاقة وثيقة بالشأن الثقافي منذ صغره، وتواصل مع الصحف السعودية، خصوصاً الرائد واليمامة والجزيرة والمنهل، لتكون نواة الفكرة في البحث عن الشخصية، وتتبع نتاجها، وتقصي كل ما يمت له بصلة، بدءاً من ابنته شيرين.
في أول لقاء للغذامي مع المذيعة الراحلة شيرين حمزة شحاتة، روت له أنها سافرت من جدة إلى القاهرة لتقف إلى جانب والدها في المستشفى، ودخلت غرفته، وكان لم يزل بوعيه، وأول ما دخلت عليه أخذ بيدها وقربها لفمه يشمها ويتحسسها، ليبعد فجأةً يدها عنه وقال: ليش يا بنتي؛ إذ كان لمس خاتماً بفص كبير يطوق أصبعها، وهو الذي رباها على القناعة والتعالي على مظاهر الدنيا، فقالت شيرين لأبيها: هذا خاتم (فالصو) يا بابا وقيمته أقل من مئتي ريال، فقال الأب؛ حسناً يا بنتي هبيني رضيتها منك الآن، ولكن ما شعور فتاة فقيرة غلبانة ترى خاتمك هذا.. هل ستقول إنه فالصو أم ستشعر فقط بالحرمان..!
يقول الغذامي (موقف لم تكن شيرين تتوقعه من أبيها حمزة شحاتة الذي رباها على القيم الإنسانية وعاش حياته كلها إنسانياً، وكانت أمنيته أن يدرس بناته الخمس في كلية الطب لكي يفتح مستشفى يعالج الفقراء بالمجان) ويرى أن حكاية خاتم شيرين؛ يختصر تاريخ الأديب الرائد حمزة شحاتة، وما كان يمثله من قيم طبقها على نفسه قبل أن يطلبها من الناس.
من هنا نمسك، طرف خيط، لنعرف من خلال تلمسه، ما الذي أغرى (أبو غادة) بالانتصار (لأبي شيرين) جاعلاً من إنسانيته العالية، منطلقاً لكتابه الجدلي (الخطيئة والتكفير) لنتيقن أن المحبة والإنسانية أقوى ما يحفظ، ويُخلّد الأسفار والمؤلفات، وإن رحل كاتبوها. ولذا حاز «الخطيئة والتكفير» جائزة مكتب التربية العربي لدول الخليج في العلوم الإنسانية 1986.
وفي هذه الأيام تحتفي الأوساط الثقافية، عربياً وعالمياً، بمنح جائزة الشيخ زايد للكتاب، الدكتور عبدالله الغذّامي؛ شخصية العام؛ تكريماً لمسيرة عطاء مميزة، أنجز خلالها الكثير من الدراسات والمشروعات البحثية المهمّة التي أَثَرْت الحِراك الثقافي إقليمياً وعربياً، ونظير جهوده المتميزة في ميدان النقد الثقافي ودراسات المرأة والشعر والفكر النقدي التي بدأت منذ منتصف الثمانينات، والتي أحدثت نقلة نوعية في الخطاب النقدي العربي، وأسهمت مؤلفاته مثل «الخطيئة والتكفير» «والنقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية» و«تشريح النصّ» و«الموقف من الحداثة» و«الكتابة ضدّ الكتابة» و«المرأة واللغة».
فيما نال الغذامي جائزة مؤسسة العويس الثقافية في الدراسات النقدية 1999، وكرمته (مؤسسة الفكر العربي) للإبداع النقدي 2002 ـ القاهرة. فيما احتفى المجلس الأعلى للثقافة في مصر العام الماضي بتجربته.