لطالما كانت الإزاحات الثقافية مآلاً حتمياً لحرفة الكتابة، وجاءت الأفكار التي تتدفق من خلال الكتب لتسهم في تحول الموروث الثقافي عن إستاتيكيته لصالح ديناميكية تعيد إليه وهجه وتمنحه الحضور الحيوي في ميادين المعرفة، وتدفع به نحو ثقافة إنسانية عابرة لأطر الإقليم والعرق واللغة، فثمة مُثل مشعة وقيم مضيئة ومبادئ مشتركة تقود القارئ عبر مسارات متعرجة ومعتمة لتخرجه من حيز الأنا المنغلقة إلى فضاءِ الإنسانية الرحبة، وهي المجاوزة التي من شأنها أن توطد عرى الإنسانية وتشذب ما علق بها بسبب النزعات الفئوية والغرائز الطبيعية لتبدو ناصعة ومتينة وتعين على نهضة فكرية مستديمة تتجانس مع مثيلاتها.
بيد أن تحقيق إزاحة ذات بال يبدو عصياً إزاء الإخفاق في ترويض الجموح الأيديولوجي الذي ينتاب الصنعة الإبداعية، وأمام القدرة المتواضعة على تقويم جنوحها عن المسار الطبيعي، فالقيود التي تكبل المبدع والأفكار التي تهيمن على محيطه الثقافي عادةً ما تصنع ثقافة تتأرجح بين الجهل والمعرفة كتلك التي أسماها بازوليني «الثقافة المتوسطة» ووصفها «بالمُفسِدة دائماً».
وكما أن من شأن تقديس نمط ثقافي معين أن يئد محاولات النقد ويفسد خطط التطور ويبقيه منكفئاً على ذاته متقوقعاً حول مفاهيمه ويخلق بينه وبين الأنماط الأخرى سياجاً صلباً لا يمكن تجاوزه تُحبس من خلاله الحياة داخل كانتونات ثقافية معزولة عن بعضها البعض مما ينتج فكراً مغترباً ومتوجساً لا يلقي بالاً للتحولات المعاصرة ولا يتجاوز إبداعه كونه مادةً استهلاكية محضة.
فإن انفتاحاً جريئاً يحفظ للهوية قيمتها الثقافية ومكانتها التاريخية من شأنه أن يحقق إزاحة قيمة وباعثة على الرضا تسهم في عقلنة الثقافة وتخلق مناخاً خصباً لمزاولة الإبداع ينعكس على مجمل الأنشطة الإنسانية بالازدهار والإغناء.
ويُعول في بلوغ غايةٍ كهذه على الأدب بأجناسه المختلفة، الكائن الثقافي الذي يمتلك مُثلاً وقيماً تُجمع عليها الثقافة الإنسانية، وعواطف ومشاعرَ يتشاركها بنو البشر تستطيع أن ترفأ الثقوب التي سببتها الأيديولوجيات وتعالج نتوءات التمايز وتعيد إلى النسيج البشري هيئته المرضية، وتزيح ما كرسته المفاهيم السائدة التي تنعقد حول الماضي في جسد الثقافة لتُحدث إزاحةً تعود بالإنسان إلى مادته الأولية، فيما تأتي الرواية بوصفها لغة الاتصال الكونية التي يستعيض بها الإنسان عن التواصل البصري والحسي كأقدر الأجناس على أنسنةٍ تنمي الوشائج الإنسانية، وتتلمس المشتركات، بابتكارٍ وخلق يلامسان عاطفته ويحققان غريزة انتمائه إلى إنسانيته، لتمزج ثنائية الإنسان وتبحث أوجاعه ومعاناته والقضايا المقلقة والمؤرقة له ولمجتمعه وتناقش وتحلل ما يهمه وتقف إلى جانبه في مواجهة آلامه فتمتد عبرها يد الروائي لتربت على كتف القارئ تارة، ويتسلل عن جمله بريق عارم يضيء آماله تارات أُخر.
وهو ما فعله الفرنسي العظيم «فيكتور هوجو» في روايته «البؤساء»؛ أحد أهم الأعمال في الأدب الغربي والعالمي، حين تحدث عن الإنسان بمعناه الشمولي وأبرز قيمتي العدل والتسامح اللتين يرنو إليهما بنو البشر وصور ماهية الظلم ووقعه على النفس والصراع الأبدي بين الخير والشر، فقرأه الشبان في الهند والسلفادور وجنوب أفريقيا وفلسطين كما لو كان كلٌ منهم هو «جان فالجان» النموذج الأثير لحب الخير والانتصار للعدالة، وقرأنه السيدات في البوسنة وأفغانستان والكنغو وزيمبابوي، فشعرن بحفيف قبلات وليدة تداعب وجناتهن وبيد «فانتين» وهي تمتد إليهن بالمواساة، وضمنته التشيلية إيزابيل الليندي روايتها الشهيرة «باولا» التي تتضوع رائحة الحزن عبر صفحاتها ويخيم ألم الفقد على جملها، فقرأنها الثكالى في ميشيغان وكركاس ومقديشو وبوجوتا وأطردت أنفاسهن وذرفن الدموع وشعرن كما لو كن شجيرات خُلعن من تربتهن لكن شيئاً ما أعادهن إليها فاحتضن صورتها المطبوعة خلف الغلاف.
ودونته المصرية رضوى عاشور في رائعتها «ثلاثية غرناطة»، فقرأه المقموعون في فلسطين وتشيلي والأحواز وغيانا وأدركوا أن الحياة تزخر بالبهجة وتكتظ بالجذل، وأنها تهدينا المسرات الصغيرة حتى في أكثر الأزمنة فضاعةً، وأن البقاء مناط بابتكار السعادة والنضال مرتبط بخلق الفرح، وأن الكتاب مشترك إنساني يتوجس الطغاة منه ريبة، وزاوله السوداني الأريب الطيب صالح في روايته البديعة «موسم الهجرة إلى الشمال» فكشف عن المساحات الفكرية والاجتماعية المشتركة بين إنسان الشرق وإنسان الغرب التي يمكن من خلالها وضع علاقتهما في المسار الإنساني، بعيداً عن النزاعات التاريخية وآثار الاستعمار، مستنداً على يقينه بأن العلاقات الإنسانية غير معنية بمظاهر التقدم والتخلف وأنها لا تكترث بالمادة سوى في سياقها الإنساني.
وجاء في ثنايا الروايات الأثيرة التي شاطر مؤلفوها قراءهم على امتداد العالم همهم الإنساني وانتماءهم البشري وتماهوا وإياهم في ثقافة واحدة حقيقتها الوحيدة هي الإنسان، ويقينها الراسخ هو أن الحياة شيء رائع تستحق أن يعيشها متسامحاً مع كل تناقضاتها.