وطّأت الرقمية الحدود الفاصلة بين النخبوية، والشعبوية، وأذابت الميديا مهابة الكتابة، وذللت فرص تقديم الذات الكاتبة، التي كان يتردد الكاتب زمناً، قبل أن يجرؤ على ملامسة عتبة النشر، والظهور في وسائل الإعلام، وحلّت الوسائط المغرية بالحضور والبروز محل منصات إعلامية لها ضوابط وشروط تفرضها على الكاتب للمحافظة على احترام المكتوب والوسيلة والقارئ. وفي ظل تنامي نوافذ العرض الكلامي الخفيف والسائل، يخشى مراقبون على الثقافة الصلبة التسييل، كون الرقمية لا تحتمل الصلب برغم ارتباطه بالهويّة والكينونة، وهنا عرض للقضية على متخصصين في قراءة الظاهرة؛ إذ عدّ الناقد الدكتور علي الخشيبان العصر الرقمي ساحراً للبشرية إلا أنه ليس آمناً بما يبديه من النعومة في ملمسه، بل يخفي الكثير من المخاطر خصوصاً وأنه يتم حالياً وعلى المستوى العالمي تحويل العمليات الصلبة التي ميّزت الثقافة البشرية عبر تسييلها نحو العولمة، ولفت إلى أن الأرقام والإحصائيات عن تزايد عدد المستخدمين للتقنية تؤكد أن التزام الإنسان أمام سحر التقنية في كل حياته سواء اجتماعية أو ثقافية أو سياسية أو فكرية أو صناعية.
وأوضح الخشيبان أن العالم كله يعيد إنتاج ثقافته وينقلها إلى حياة رقمية أقرب وأسهل في الاستخدام العالمي، مؤكداً أن تسييل الثقافة ينتج أنماطاً مؤثرة على جميع المجالات القائمة، مشيراً إلى أن المجتمع السعودي بالتفاعلية الرقمية يحتل مرتبة متقدمة عالمياً، ما يُرتب أثراً كبيراً على ثقافته، التي تميزت بالخصوصية على مستوى الانتشار الإقليمي والدولي، ويرى أن درجة الوعي تلعب دوراً مهماً في كيفية محافظة المجتمع على ثقافته، ومهارته في التدقيق لما يجب عليه أن يتنازل به لصالح العولمة وما يجب عليه أن يحتفظ به لنفسه، وذهب إلى أن ثقافة الحياة الرقمية شديدة التأثير وشديدة الخطورة كونها تعتمد ما ينشر من خلالها دون تقييم مرجعي لحجم الخطورة، إذ يتم تداول الكلمات غير الدقيقة لوصف ثقافتنا أو أيديولوجيتنا ونهجنا الثقافي والفكري، بحكم استخدام كلمات وعبارات يتبناها الجميع وهي مجرد صيغ مبالغة غير دقيقة لوصف الوضع القائم، وأضاف الخشيبان «كلما كان الوعي أقل في درجته كان ذلك مشجعاً على تسييل الثقافة عبر استخدام كلمات بديلة تكون مفخمة لوصف الواقع، ومضللة ولا تنقل الحقيقة كما هي».
ويرى الكاتب وحيد الغامدي أن علينا أن نكون أكثر انفتاحاً في مفهومنا عن وقار الثقافة ورساليتها. ولا بد أن تواكب الثقافة ما يجري من تحولات؛ كون التحولات، بحد ذاتها، تُقرأ كملمح ثقافي دال على وجود حركة في سير المجتمع، وبالتالي دلالة تطور عميق في الذهن الجمعي.
وعدّ عملية التسييل للثقافة وسيلة يمكن أن تحافظ على رزانة ووقار ورسالية المضمون الثقافي، شرط أن تُعرض باللغة التي يُفترض أن تُقدم بها الثقافة بكل صنوفها انسجاماً مع زمن جديد موغل في التسارع والتحولات المفاجئة. ويذهب الغامدي إلى أن التحول الأبرز الذي يمكن تصوره باعتباره انعكاساً لهذه العملية يتمثّل في أن جغرافية المشهد الثقافي سيقع عليها تغيير نوعي؛ من خلال تغير ملامح المشهد، وبروز أسماء جديدة واختفاء أخرى، وسيتغير المسرح أمامنا ونحن نشاهد، إضافةً إلى أن الفعل الثقافي نفسه سيسلّم بالاندماج والتفاعل والتأثير والتأثر مع نظيره في بقية الأمم والشعوب بفعل الأدوات نفسها التي سوف تصوغ الثقافة في قوالبها من الآن فصاعداً.
فيما يؤكد الناقد الدكتور أحمد التيهاني أن اختلاف أداة التوصيل يؤدي إلى تغيّرٍ في سمات المنتج الإبداعي الأدبي وطبيعته. ولفت التيهاني إلى أن من القضايا التي يتناولها الباحثون في الأدب الرقمي التأكيد على تلاشي النخبة وظهور الشعبي، من خلال وسائل التواصل، وعدّها نتيجة بدهية لإتاحة النشر وفتح أبواب القول للمستخدمين التقنيين، دون استثناء أو إجازة أو رقابة، ما يفسر شهرة أشخاص لا يقدّمون أيّ محتوى معرفي، أو إبداعي أو إنساني، ما بوأ هؤلاء مرتبة الحضور والشهرة، ليتفوّق السائل على الصلب.