يذهب البعض إلى توثيق (العلماء ورثة الأنبياء)، ولو سلمنا بهذا، سيترتب عليها إكساب الدعاة رمزيةً تخوّلها لممارسة سُلطة على المجتمع، علماً بأن الدعوة ارتبطت بالعهد النبوي (ادع إلى سبيل ربك) ؛ (وليكن منكم أمة يدعون إلى الخير)، فالخطاب موجه للعصر النبوي، وما جاء بعده يمكن أن يندرج في الوعظ، ممن أطلق عليهم المدوّنون (القُصّاص والمُذكرِين).
ولأن النصوص القطعية أثبتت أنه لا نبي بعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (لا نبي بعدي)، فلماذا يتكلّف البعض ويتعنّت في سبيل تزكية الذات بتوليه مهمات نبوية؟ وهل الدعاة معصومون شأن النبي لكي يقوموا بدوره؟ وبما أن الزمن المعاصر يقتضي تفكيك بعض المفاهيم فمن الواجب إعادة النظر في مشروع الدعاة ومنطلقاته، مع التفريق بين ما تهب الدولة من وظائف ذات مسميات ومهمات شرعية وما يمنح بعضهم لنفسه من قداسة، كونه داعياً قائماً بما يجب عليه مما تحمله من ميراث النبوة.
ويذهب المفكر المغربي الدكتور عبد الإله بلقزيز إلى أنه لا وجود للدعوة خارج النُّبوة، كون فعل الدعوة في الإسلام إنما هو فعل نبوي محصور عليه دون سواه، وأي زعم لغيره إنَّما هو تطاول على أمر خصه اللهُ تعالى بالنبي فقط. وبالتالي، فإن الدعوة الدينية تنتهي في التاريخ، بانتهاء النَّص، لا في غيره من البشر، مضيفاً أن الذين انتحلوا الدعوة، وتقمصوها، إنما فعلوا ذلك من أجل مصالحهم وآرائهم الخاصة، لا من أجل الإسلامِ في حدِ ذاته. وعندما أُخرجت الدعوة من سياقها التاريخي، فإنها دون أدنى ريبٍ فقدت مضمونَهَا الذي ظهرت فيه لأولِ مرَّةٍ مع النبي محمد بن عبدالله. وأوضح بلقزيز أن الدَّعوة في الإسلام مرتبطةٌ بتبليغِ الرِّسالة، والأخيرةُ اختُتمت مع النّبي، مصداقاً لما جاء في القرآن الكريم: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»، ودعا إلى ضرورةِ فهمِ الدَّعوةِ من خلالِ ربطِها بسياقِها التَّاريخيِّ الذي ظهرت فيه.
ويَقْرِنُ بلقزيز بشكلٍ مَاهَوي بين الدَّعوةِ والنُّبوةِ «إذ لا يمكنُ فكُّ الارتباطِ بين الدَّعوةِ والنَّبوة. وكل من يَميلُ إلى فكِّ العلاقة بينهُما إنما يَصْطنِعُ لنفسِهِ دوراً نبوياً». وعليه، بالتالي، نهاية شيء اسمهُ الدعوة.
ويرى أن مرد الطَّلب المُتزايد على الدَّعوةِ في التَّاريخِ الإسلامي، منذُ نهايةِ الدَّعوةِ المُحمدية حتى اليوم، إلى أن «تقمص الدعوة أو انتحالها، يوفر لصاحبِها رأسمالٍ رمزي عالي القيمة في المجتمع». وهي بهذا الكَيْفِ سلطةٌ رمزيةٌ يُتغيَّ تَحَوُّزُها، وهي وسيلةٌ لتحقيقِ بعضِ المصالحِ، سواءٌ أكانت سياسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية. بل إنه في تاريخِ الإسلام، ما قامَ مشروعٌ معين، أو دولةٌ ما، إلَّا واعتمدت على الجانبِ الدعوي.
ولفت بلقزيز إلى أن التَّاريخ الإسلامي شهد بعد عصرِ النبوة «السطو» على منصبِ الدعوةِ «بما هي آليةٌ من الآليات التي قام عليها المشروع المحمدي»، ويتجلى الأمر بشكلٍ واضحٍ في الإمامةِ الشّيعية، إذِ القولُ بالإمامةِ في الفكرِ الشيعي، حسب بلقزيز، «قولٌ يضمرُ ويبطن بأن الإمامة نبوة مستأنفة، لأنها، ومنذ جعفر الصادق، خلافة للنَّبيِّ في الدِّينِ والدنيا». مشيراً إلى أن الأمرَ عينهُ وقَعَ عند السُّنة، علماً بأنه «ما مِن أحدٍ، من أهلِ السنة والجماعة، قال إن وظائفَ النبوةِ تنتقل من النبي إلى خلفائه».
ويؤكد أنه إثر التَّشَرْذُمِ والانقسامِ الذي عرفَهُ المسلمون، ظهر لونٌ جديدٌ من الدَّعوة، إذ خرجت ثُلّة من الفِرق، والتياراتِ، والمذاهبِ، إلخ، تدعو إلى ما تعتقدُه هو الإسلام الصحيح، وما سواه محضُ زيغٍ، وانعطافٍ عن الصِّراط المستقيم..! فانتقلت الدعوة من مرحلةِ دعوة غيرِ المُسلمِ إلى اعتناق الإسلام، إلى دعوةٍ داخل الإسلامِ، تدعو المسلمَ إلى مذهبِ الفِرقةِ أو الشَّخص الدَّاعي.