التشبث بالبشر، بالأشياء، وكأنها إن ضاعت لن أجد عوضها في الأنحاء، لا أستحسنه، الكثير من الأشياء تركتها للأيام لأقنع نفسي وحسب بأنني قادر على التخلي، أدع الأشياء، أتفكه برؤيتها وهي تمضي، تذهب من طريقٍ إلى آخر، وأنا أبتسم على الرصيف الأول. أنا لا أثرثر اتفاقًا لأكتب، وإنما معتقد وإن بدا ساذجًا إلا أنني أجده يؤدي إلى الخسران، قرأت سلفًا لإحسان عباس في كتابه (تاريخ النقد الأدبي عند العرب) في لحظةٍ كان يعبر بها الزمان خاطفًا مدن الأندلس، الدار بعد الواحة، والعقار بعد الأسوار، خاف الشعراء من الضياع، وخاف النقاد، وخاف الشعب. فأنتجوا نتيجة الذعر شعرًا كثير، كسد أغلبه، وتقهقرت مكانته، وباتت خيوط فنهم بالية، وباتوا يهجرونه فرادى.
حالة الخوف من الضياع، التوجس من التلاشي، الدوران كثيرًا حول البقاء في أغادير الخلود قد تؤدي في ذات الساحة إلى التعثر في مهاوي النسيان، أو الهلاك. كان «أناتول» يفرق بين اللحظة العابرة، والصورة الباقية. لديه إيمان مختلب النظرة السريعة، هذا الوميض المراوغ، لا يمكنك من نفسه ولا تحيا معه.
والذاكرة خائنة، فهي تواري بعض ما كان، تشوش اللحظات، وتضفي بريقًا على ما كان في أصلهِ باهتًا. وفي محاولة للتمرد عليها رافق كاميرا، ليخلق لحظات سرمدية، والمشاهد العابرة تغدو أبدية. غير أن هذا الجشع في اختزال اللحظات أودى بحياته، وأفنى سنينه، جعل أعواد الثقاب تتسلق ما جمع، وتمزق سنينه المتبقية في غرفة نومه.
وثمة رأي في أوساطنا يرسم ملامح الفكرة، ولربما قد تسللت إلى وعيي بغير إرادة، عندما كنت طفلاً استمع للشيبان. يقول الرأي إن محاولة تخليد اسم ما، يشكل لوحة هلاك الآخر، حين يأتي إلى السلف سليله ويخبره بالقرار، ترتعد فرائص الكهل ويتدفق صوته المتحشرج وكأنه آتٍ من أعماق بئرٍ عُدم السقيا «تبي تقتلني؟» ليعدل الابن عن قراره، ويرفع شفرة الخلود عن عنق والده.
النهاية تتشكل بريشة الانتفاضة، ينبوع الشباب يردي زائريه، أو هكذا أظن! في عملية التحنيط (تخليد بقاء الجسد) تتدلى الروح معلنة غيابها، المتناقضان يجتمعان، إن أراد الخلود، فالهلاك فرض يجب تأديته.
أنا من الذين قنعوا بكأس الشاي الصباحي، بالثرثرة المؤقتة مع من بجوارهم في الباص، لم يريدوا لمواعيدهم الدوام، يحبون القطع المتناثرة، بالمسلسل الذي ينتهي بشكل خاطف، الحديث السريع، بعض أشياءٍ تساعدهم على المضي، أحبوا الضحكة التي تعقبها أحاديث جدية. تيموا بالمشهد دون توثيقه، لم يحملوا أسطوانات مليئة بالصور لتذكرهم، عشقوا صياغة الماضي كما أرادت الذاكرة، أو أرادوا هم للذاكرة.