تملؤنا النصوص القصصية الجميلة بالأمل في أنّ القصة القصيرة ما زالت حاضرة تنافس في حضورها ومتابعتها الشعر والرواية، وتعيدنا الأسماء الجديدة التي تكتبها بجدارة إلى قراءة النصوص الجديدة لا بوصفها أسماء إبداعية معروفة ومشهورة فقط، ولكنّ النصوص التي يكتبها هؤلاء الشباب مميزة، وتدعو القارئ للتفاعل مع النص بعيداً عن اسم الكاتب.
من النصوص القصصية الجميلة التي لفتت انتباهي مؤخراً قصة «الحقيبة» للقاص وليد الكاملي، الذي أتابع نشاطه الإبداعي، وما يكتب بإعجاب صامت في أحايين كثيرة بعد أن أتاحت لنا فضاءات التواصل الاجتماعي هذا التعارف.
هذا النص نشر في ملحق عكاظ الثقافي الأسبوعي، وربما كان من النصوص القصصية القليلة التي شدتني إليها من البداية إلى النهاية، لم أشعر وأنا أقرأ هذا النص القصصي بالترهل، أو الانكشاف المسبق برغم ورود العنوان في أكثر من نصّ إبداعي سابق.
ما لفت انتباهي في هذا النص أنّ البداية التي استثمرها وليد الكاملي في تمرير فكرته بدأت بالظن وانتهت باليقين، فالبداية كما وردت في النص القصصي تقول: «كنت أظن أنها مجرد عادة يومية أمارسها، لكنني ومنذ ذلك اليوم الذي حصلت فيه على تلك الحقيبة وأنا أشاطرها في كل يوم ساعة من زمن، هكذا عبثاً أقلبها وأفتش في جيوبها وألاحظ نموها ونمو الذكريات التي أدسها فيها بين الحين والآخر»، وفي هذا الاستهلال ما يفتح الباب للعديد من المفاجآت المنتظرة عن هذه الحدث الحقيبة، والذكريات، والأسرار التي تنمو داخل جيوبها!
هذه التساؤلات تكشف لقارئ النص عن أسرار ليست مرعبة، لكنها حتما ستكون مختلفة وغير متوقعة، إذ يكشف الحوار المتقن في هذه القصة بين بطل النصّ (الراوي العليم) والأخ الأكبر فاروق عن العديد من اللفتات المحيطة بهذا الحدث، كأسرار زيارة الأخ الأكبر فاروق له في الصباح على غير العادة، واستدعاء مشكلة الأم المريضة التي يسكن معها الراوي (بطل النصّ)، وكسر الحوار لهذه التساؤلات التي ربما تشغل القارئ وسط صمت البطل واكتفائه بمراقبة نظرات أخيه التي تتجول في أرجاء الغرفة الغارقة بالعبث!
هذه اللفتات تكشف للقارئ عن جوانب أخرى تحيط بهذا الحدث، وتفاصيل ربما لا تعنينا بشكل مباشر، لكنها ترفع من قيمة النص القصصي أدبياً وفنياً.
الحوار بين بطل النص والأخ الأكبر كشف عن الحقيبة التي تحولت إلى حدث متصاعد يسأل عنها كل من سمع بها، أو رآها لدرجة أنها كما يرى الأخ الأكبر فاروق أصبحت لدى بطل القصّة أهم من الأم والاستقرار والزواج، إلى درجة انتشار خبر الاهتمام بها في الحي!
هذا النص القصصي لا يغفل التفاصيل المهمة، النفسية والاجتماعية والإنسانية التي تحيط بأحداث النصّ، وتكشف عن جانب آخر من اللذة، تلك التي تمنّى فيها البطل أن يستطرد الأخ الأكبر فاروق في الحديث الذي دار بينهما، ليس حباً، وإنما ليتلذذ بغضبه وأساه عليه «تمنيت لو أنه تجرأ وأخذ الحقيبة وفتشها أو حتى مزقها، تمنيت لو أن أمي تفيق من غيبوبتها وترى هذا المشهد الذي لطالما حدثتها عنه عندما كان كل إخوتي الثلاثة يغيبون عني وعنها بالشهور مكتفين بالسؤال عنا هاتفياً»!
لم تكن الحقيبة سوى جائزة يتيمة حصل عليها بطل النص القصصي في مسابقة كتابة المقال التي أقامتها إدارة التعليم قبل ثلاثين عاماً من الآن، لكنها مرت دون أن يشاركه في هذا الفرح أحد، ولم يحفل به ولا بها أحد، لتبقى (كما قال) ذكرى حزينة ووحيدة!
إذن، الحقيبة لم تكن تحمل في ذاتها قيمة، وإنما القيمة الفعليّة هي الذكرى التي ظلّت حبيسة داخل نفس صاحبها، كشفها هذا الحوار المتقن في نصّ قصصي مشوّق وينفتح على التأويل، ولن أكون مبالغاً إن قلت إنّ هذا النص القصصي كان مختلفاً، وبديعاً، وإنّ كاتبه قد تميّز في التشويق، كما تميّز في البناء السردي، وأحكم عليه بالدلالات القابلة للتأويل!