يتجاوز الناقد الشاعر محمد الحرز كثيرين من مجايليه، باقتحام مناطق شائكة؛ بوعي المفكّر، فالناقد الحرز مساحته أوسع مما نرى، والحرز الشاعر عبارته أضيق مما نعتقد، يفكّر كما يعيش، ويطرح من الرؤى ما يؤكد استقلالية النخبوي، الذي لا يعنيه أكثر من قول كلمته في زمانها ومكانها، وهنا نص حوارنا معه..
• بماذا يمكن وصف المشهد الثقافي السعودي؟
•• المشهد السعودي يمكن وصفه انطلاقاً من الدور الكبير المناط به، الذي أوقعته تقاطعات اللحظة الراهنة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية في شباكها، وهو دور تاريخي مفصلي، ليس للثقافة المحلية فحسب، وإنما للثقافة العربية على وجه الخصوص.
تلك التقاطعات فرضتها أحداث كبرى زلزلت استقرار بعض الدول العربية المهمة، على مستوى الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني، وفرضت حالة من الترقب والتساؤل في الأوساط العربية: مَن يعلق الجرس؟ مَن يعيد الألق إلى فكرة الثقافة بوصفها قوة ناعمة للدولة والمجتمع؟
المملكة بقيادتها الشابة صنعت هذا الألق برؤيتها المستقبلية، ورهانها على أن إنسان الوطن وثقافته المتطلعة للأمام، هو من يصنع القوة في جميع مجالات الحياة.
لذلك قدم الحراك الثقافي السعودي نموذجاً مبهراً في كيفية استثمار الطاقات التي يمتلكها أبناء البلد من شباب وشابات، في كل المجالات الثقافية والإبداعية والعلمية، استثماراً يحقق معها الغاية والهدف، وهو صناعة المستقبل.
ولا يخفى على أحد أن أهم روافع هذا الحراك جاء بفعل ذاتي داخلي أيضاً، فالإمكانات الكامنة في طبيعة المجتمع السعودي باعتبار تنوعه الثقافي، وعمقه التاريخي، ونسيجه الاجتماعي، لم تستطع معها أي قوة مضادة لا تؤمن بالتنوع، وتحاول فرض أفكارها وقناعاتها على عموم المجتمع، أن تحجب تلك الإمكانات، مهما صنعت ومهما حاولت.
ناهيك عن المكانة الكبيرة التي تحظى بها المملكة على مستوى العالم اقتصادياً، مما يجعل أي حراك أو تغيير فيها، بأي اتجاه مؤثراً كبيراً، لا يمكن تخطيه لا على مستوى الإعلام أو الثقافة أو المجتمعات.
هذا في ظني أهم المرتكزات التي من خلالها يمكن وصف المشهد السعودي من منظور الدور الذي يلعبه حالياً.
•هل الثقافة مسؤولية دولة أم نخبة؟
•• كلاهما معاً، هذا إذا كنا نعني بالمسؤولية حرية ابتكار الأساليب المطورة للعمل الثقافي، وإبداء الرغبة والطموح في تعزيز القدرات الإبداعية والمعرفية عند الإنسان. لكن ثمة درجة من المسؤولية تكون أكبر من غيرها، ولا شك أن الدولة بجميع مؤسساتها وأجهزتها الإدارية وقوتها المالية هي القادرة على توجيه القدرات والحريات، بل وحتى توجيهها من العمق.
لكن بالنظر حالياً إلى تحولات الثقافة المعاصرة في ظل الرأسمالية الجديدة وعلاقتها بالمجتمعات، فإن مفهوم النخبة لم يعد كما كان مثل السابق، كتلة واحدة، تتمايز عن بقية المجتمعات بقيمتها المعرفية والعلمية والثقافية، بل تشظى في اتجاهات عدة، ولم يعد له وجود كقيمة مؤثرة، بل صعدت بدلاً منه قوى بديلة، من أهمها تلك التي ترتكز في وجودها على فضاءات افتراضية مؤثرة، للأسف لا يملك أغلبها تأثيراً كبيراً على قضايا الرأي العام، بل يقتصر التأثير على تفاصيل شكلية تتعلق بالمظاهر فقط.
من هنا في ظني تتضاعف مسؤولية الدولة في إعادة الاعتبار للنخبة كقيمة.
• متى يمكننا إقناع المجتمعات بدعم الثقافة وتمويلها؟•• على من تقع (نون الجماعة) في يمكننا، ثم هل مسألة الإقناع مجرد آلية متى ما أراد الفرد أو أي جهة من الجهات الفاعلة بالمجتمع أن يقنع الآخرين بفكرة أو عمل ثقافي يكون باستطاعته القيام بذلك، بمجرد تحريك هذه الآلية؟
الأمر يبدو لي أكثر تعقيداً من ذلك، فوسائل الإقناع ليست سوى طرق التفاعل القائمة بين صناع الثقافة من مبدعين ومثقفين ومفكرين وعلماء وأكاديميين والقائمين عليها سواء من جهات حكومية أو جهات أهلية خاصة، وبينها وبين متلقيها من مختلف شرائح المجتمع المختلفة.
الرغبة والإرادة في تطوير هذه الطرق، يقود بالتالي إلى تحويل الثقافة من طورها الإنشائي الفوضوي إلى طورها المؤسساتي الفاعل والمنظم، وهذا وحده كفيل بالقول إن ثمة دعماً حقيقياً تتلقاه ثقافة البلد.
• أين وصلت جمعية الأدب؟•• منذ تأسيسها إلى الآن، والأمور تسير في وجهتها الصحيحة، رغم المعوقات التي كان بعضها يخص مستوى الدعم التقني واللوجستي والتنظيمي إلا أن الزملاء سواء في مجلس الإدارة برئاسة الصديق د.صالح زياد أو الزملاء في الجمعية العمومية استطاعوا أن ينسقوا جهودهم ويبذلوا من وقتهم الشيء الكثير في سبيل إخراج الجمعية بالصورة التي تليق بالمشهد الأدبي السعودي.
• ما السمة الغالبة على الملتقيات الأدبية هذه الأيام؟•• على تنوعها ونشاطاتها المتعددة الرسمية منها كالمسابقات والأمسيات والندوات والمهرجانات، سواء التي تقيمها هيئة الأدب والنشر والترجمة، أو الأندية الأدبية أو حتى النشاط الملحوظ لأكاديمية الشعر بالطائف، وسواها من الجمعيات المنشأة حديثاً، هو حراك في حد ذاته مهم، ويلبّي متطلبات المرحلة الراهنة.
لكن مسألة التنسيق ضرورية ومهمة، وما أقصده بهذه المسألة فتح قنوات تواصل فيما بين كل هذه الجهات، لتأمين أكبر قدر ممكن من مشاركة المبدعين والمثقفين والمفكرين في جميع الأنشطة التي تقام هنا أو هناك، فليس من المعقول أن يعاد تدويل أسماء بعينها في جميع المناسبات والأنشطة، وليس من المقبول أيضاً أن يتصدر المشهد من خلال تصدرهم بعض الملتقيات نجوم السوشل ميديا الذي يدّعون -وليس جميعهم- المعرفة الأدبية والفكرية بينما من أفنوا حياتهم؛ ثقافة وكتابة، يتفرجون فقط.
• كيف يمكن تعزيز التواصل بين الأجيال الثقافية؟•• بالحوار.. في ملتقى الأدباء الذي أقيم العام الماضي في أبها، كان ضيوف الملتقى مزيجاً من مختلف الأجيال الأدبية وصناع الثقافة، وهي فكرة تصب في مصلحة تعزيز التواصل، تشكر عليها هيئة الأدب والنشر والترجمة. لكن تطوير هذه الفكرة ضرورة ملحة، فمثلاً لماذا لا تقام ورش عملية، يتم فيها محاورة الرعيل الأول أو الثاني من مثقفي ومبدعي الوطن من طرف مجموعة من شباب الجيل الحالي من مبدعين ومثقفين، وأشدد على أن تقام حضورياً بالدرجة الأولى، وإذا تعذر بعضها يمكن الاستعانة بالوسائط الإلكترونية، بحيث يتم من خلال هذا الحوار مناقشة أعمالهم وأهم منجزاتهم في الساحة. وأظن هذه من أهم سبل التواصل بين الأجيال.
• لماذا غدت الكتابة هاجس الجميع، فيما لا تزال القراءة شاغل القلة؟•• إذا كانت هذه الملاحظة دقيقة، وأظنها كذلك، اعتماداً على ما نراه في وسائل التواصل الاجتماعي من استعراض للكتب وتلخيصها، أو كثرة الدعاية والإعلان التي تروج لمؤلفين، لم يكن لهم حظ في الثقافة سوى إطلالتهم من خلال نجوميتهم في السناب شات أو تك توك أو تويتر، أو ما نراه أيضاً في المناسبات الكبرى كمعرض الرياض الدولي للكتاب الذي انتهت فعالياته أخيراً، والذي صاحب فعالياته الدعاية والإعلان عن الكتب الجديدة، وهو أمر يبدو طبيعياً في مثل هذه المناسبات. لكن من فرط كثرتها يظن المتأمل أن جميع الناس تحولوا إلى كتّاب، وأن القارئ هو المفقود في هذه الظاهرة.
إذا كانت الكتابة فعلاً تراكمياً عبر الخبرة والتجربة، فإن القراءة طريقة حياة في التعامل مع الوجود والعالم، فكل الأشياء قابلة للقراءة، ومن ثم تحويلها للكتابة. وهذا يتطلب زمناً وحسّاً تاريخياً، للأسف مفقود مع انتشار مثل هذه الظاهرة.
• بين الشعر والنقد؛ أي الكفتين بمشروعك أرجح؟•• في رسائل «فلوبير» وردت العبارة التالية «الحضارة بأكملها تاريخ مستعاد للشعر» معناه بكل بساطة أن الأصل في المعرفة البشرية يبدأ من الشعر، ومن ثم يعود إليه، فلا فكاك من الشعر مهما أخذتنا دروب الحياة والمعرفة بعيداً عنه. هكذا أرى نفسي في حالتي مع الشعر، فكل ما أكتبه نقداً أو فكراً أو حتى متابعاتي السياسية، يحركه من العمق طبيعة الموقف من الشعر، وهي طبيعة ملغزة وحائرة وقلقة وتتسم بالمحاولة للوصول إلى شيء ما لا أفهمه، وهو ما يشكل بالنهاية دافعي النقدي والفكري للفهم والوصول إلى شواطئه. ناهيك بالطبع حرصي التام على إيجاد الوشائج التي تجعل أسلوبي في الكتابة يستوعب كل هذا التنوع دون نفور في العبارة أو استسهال في الموضوع أو الإكثار من صيغ وتعابير جاهزة لا تشير إلى أي معنى محدد.
• هل تراجعت طفرت الكتابة الروائية، ولماذا؟•• بالعكس ازدادت وتيرتها، مع التحولات الكبرى التي تعيشها المملكة، ولا أظن يخفى على المراقب البعيد، فضلاً عن المتابع عن قرب، كثرة الأسماء من (كتّاب وكاتبات) الذين يعلنون عن إصدارهم الأول للرواية، في وقت يكاد يكون متزامناً، بخلاف ما قبل هذه التحولات، يمكن تمر سنة أو سنتان، لا تصدر خلالهما سوى بضع روايات، ولأسماء معروفة مسبقاً.
كل فرد في هذا العالم عنده حكاية، وإذا ما قرر أن يرويها كتابة، فمن السهولة بمكان أن يقوم بتنفيذها ما دامت قيم الثقافة المعاصرة تتيح للفرد حريته في قول ما يريد قوله، تقديساً لفردانيته.
• مَن أبرز كتاب قصيدة النثر في المملكة؟•• ثمة شيئان تتسم بهما قصيدة النثر، تنتفي معهما معيار (الأبرز أو الأفضل…) إلى آخره من المعايير التي تشتمل على صيغ المفاضلة، الأول هو كل تجربة هي عالم قائم بذاته بكل أبعادها وحتى مرجعياتها، قد تقترب تجربة من أخرى في بعض عناصرها. لكن ما هو مختلف يكون أكبر وأوسع.
ثانياً من فرط تعدد الأجيال التي كتبتها منذ قصيدة فوزية بوخالد في السبعينات إلى ما بعد الألفية الثانية، أصبحنا نملك خريطة واسعة ومؤثرة داخلياً وخارجياً على امتداد الوطن لكتاب وكاتبات هذه القصيدة
لكن يمكن الحديث عن الأبرز من منظور النشاط وكثرة الإنتاج، وليس من منظور قيمة التجربة شعرياً وجمالياً، هناك: إبراهيم الحسين، أحمد الملا، غسان الخنيزي عبدالله السفر، حمد الفقيه، محمد خضر، هدى ياسر، زكي الصدير، مسفر الغامدي، محمد الدميني، صالح زمانان، زياد السالم، روان طلال.
هذه مجرد نماذج، وليعذرني من غاب عني اسمه لحظة الكتابة.
• ماذا تلحظ على حركة الحداثة في المملكة؟•• لا يمكن الاطمئنان إلى حركة كانت تتسمى بالحداثة بمجرد أن بعض النقاد الأدبيين انتصروا للقصيدة الحديثة، ودافعوا عنها جمالياً. وكأن اقتران الحداثة بالشعر هو كل ما يحمله خطاب هؤلاء النقاد، منساقين أو خاضعين دون وعيٌ منهم لشروط لعبة الصراع التي فرضها عليهم خطاب الصحوة، ما عدا اسمين يمكن استثناؤهما من هذه الشروط: محمد العلي، وغازي القصيبي. لقد ساهما في حراك فكري عميق هو من صميم حراك الحداثة. لكن للأسف لم يتوسع أو ينخرط فيه أغلب مثقفي المرحلة.
• ما موقفك من رموزها؟ ولماذا؟•• هل كل من كتب عن الحداثة كتابة توثيقية تسجيلية في المملكة أصبح أحد رموزها، هذا إذا أقررنا بوجود حركة بالأصل ترتبط بقيم الحداثة اجتماعياً وفكرياً وأدبياً، وهذا ما لم يحدث على الإطلاق.
نعم ثمة رجال تنوير في الأدب والتعليم والفكر شهدتها بلادنا منذ الرعيل الأول، وأجد بحوث الناقد حسين بافقيه بحسه التاريخي التوثيقي خير من أعطى هذا الجانب حقه من التوثيق المرتبط بمعنى التنوير وليس بمفهوم الحداثة.
• هل تبوأنا صدارة المشهد الثقافي عربياً؟•• على مستوى المؤسسات الرسمية والأهلية في رعايتها للثقافة والأدب والأدباء والمفكرين، أعتقد أن اللحظة الراهنة هي لحظة خليجية بامتياز، رغم أن الرعاية لم تقتصر في فترة من الفترات على بعض الدول العربية دون غيرها. لكن الخليج بقوته الاقتصادية، ونهوضه العمراني واستقراره الاجتماعي وفر الفرصة للجذب الثقافي الفاعل بين مدنه وأبنائه.
• ماذا تبقى من نظرية المراكز والأطراف؟•• لم يتبقَ شيء من الإرث الثقافي والسياسي التنظيمي الذي خلفه الاتحاد السوفيتي، ومن ضمنها هذه النظرية العنصرية الشوفينية، فالقيم الديمقراطية وقيم العولمة ألقت شيئاً اسمه المركز والأطراف.
• متى تموت الإيديولوجيات؟•• الإيديولوجيات لا تموت. لكنها تغير أشكالها حسب القيم الثقافية السائدة، سابقاً كانت الإيديولوجيات ترتكز على قيم التحرر، بينما الآن ترتكز على قيم حقوق الإنسان.
• ما المشروع الذي تعمل عليه؟•• حالياً مهتم بقراءة التراث الشيعي الزاخر بشتى التيارات والتوجهات والطقوس والمناجاة واليوتوبيا، ومحاولة إعادة كتابة جزء منه شعرياً وجمالياً.
• مِمَّ تخشى على ثقافتنا؟•• على أننا لا نستطيع أن نبني بقيمها مواطنة مكتملة الأركان.
• كيف يمكن بناء مؤسسات ثقافية مدنية؟•• إذا كانت الثقافة بوصفها صناعة محتوى من منظور قيم ولغة الحضارة المعاصرة، تدخل ضمن الرؤية الاستراتيجية لأي بلد، وهذا ما نراه من خلال رؤية 2030 بقيادة الأمير محمد بن سلمان.