أنجز مهندس الكلمة الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن، تجربة متكاملة بالكلمة واللون من خلال القصيدة الغنائية المُطعّمة بروح حداثية، نقلت الأغنية المحلية من وصفيتها وتقليديتها الكلاسيكية إلى فضاء أرحب؛ لتجري على اللسان العربي من المحيط إلى الخليج بانسيابية وكأنها أغنية كل وطن وكل إنسان.
لم يقتحم البدر ميدان الشعر (عادة الفنان المرهف الحس) بالثقة المفرطة في النجاح والقبول، بل كان وجلاً وهو يعتمد التجريب، بتفكيك النص العامودي إلى التفعيلة، ويُدخل من الجُمل العادية ما يجعلها أكثر فتنة وتغدو غير عادية «ليت الشوارع تجمع اثنين صُدفة»، فالحساسية من التحديث يعده التقليديون اعتداءً سافراً على قناعات راسخة.
حلّق بالوطن فوق هام السُّحب
ظلّت أغنية (وطني الحبيب) للراحل طلال مداح، متسيّدة المشهد الغنائي الوطني، فإذا بالبدر يحلّق به (فوق هام السُّحب)، وتغدو أغنية الوطن الأكثر شعبية داخل المملكة وخارجها وفي كل محافلها، ولا خلاف على أن البدر جعل الوطن معشوقاً لكل أفراد المجتمع بمخاطبة وجدان الناس بما يعرفه عن حبهم وتعلقهم بأرضهم ووفائهم لقادتهم، وكانت الأوبريتات شاهداً حيّاً على صدق إحساس الشاعر منذ أوبريت (الله البادي) عام 1410هـ.، مروراً بأوبريت الجنادرية (وقفة حق) عام 1412هـ (1992م) وأوبريت مهرجان الجنادرية 14 (فارس التوحيد) عام 1419هـ (1999م). وأوبريت مهرجان الجنادرية 24 (وطن الشموس) عام 1430هـ (2009م). وأوبريت مهرجان الجنادرية 32 (أئمة وملوك) عام 1439هـ (2018م). إلى أوبريت (مملكة الحب والسلام) في حفل تدشين رؤية وزارة الثقافة عام 1440هـ (2019م).
المرأة ليست جسداً في قصيدة البدر
ولم تكن (المرأة) في قصيدة البدر جسداً يحتضن نهم شوق عابر، بل هي الإنسانة وشريكة الحياة والعمر، وقدم العاشق بصورة مغايرة، وخطب ود الأنثى بحسّ مرهف (حبيبتي ردي سلامي للهوى)، و«حبيتها حبيبتي يا حلم/ ياللي أعرفك اسم/ وجو تصوره الحروف وأتخيله»، وإن اقتحم منطقة بجرأة، فلا يتجاوز مفردات (ريانة العود)، و«هلي الجدايل ظللي عن الشمس/ وداري جبيني عن لهيب السموم».
الطفولة وبراءة عاطفة شاعر
تتأكد براءة شاعرية بدر بن عبدالمحسن وهو الذي جعل من طفلته التي تركض تحت المطر صورة غنائية، وكأنها لوحة بانورامية، أو شاشة تنقل الحدث «يا طفلة تحت المطر.. تركض وأتبعها بنظ/ تركض تبي الباب البعيد/ تضحك على الثوب الجديد/ ابتل وابتل الشعر». ويرى الناقد الدكتور إبراهيم الشتوي في كتابه (مسارب ضوء البدر) أن الأمير بدر بن عبدالمحسن «من أهم رواد النص الشعري الحديث، وأحد المغامرين، والمغيرين في ملامح القصيدة الشعبية الحديثة». لافتاً إلى أن نصوص البدر «مشوبة بالشوق، ومضمخة بالحنين والشكوى، ومضيئة بفوانيس الفكرة المشعة التي تنور شوارع قلوب العشق وتلطف حلم الزمان الآتي بنسمة تثير الواس والأنفاس». وعن خصائص مفرداته الشعرية قال: «عمقها، وجمالها الفني في الجرس والإيقاع، ودلالته على المعنى الرمزي والانفعالي، والترادف والتضاد والإيحاء والخيال، والتي من خلال هذه العوامل، أوصل لنا البدر لغته الشعرية، بأسلوبه وثقافته وفلسفته، التي تؤهله لاختيار مفرداته المناسبة، لرسم الصورة الشعرية، عن طريق الاستعارة والانزياح والتشبيه، خصوصاً وأنه استثمر تقنية البناء القصصي في نصوصه، لينمو الحدث، متدرجاً بالفكرة، ومستخدماً أساليب القصة، من حيث تقنية السرد والحبكة، لتؤسس مع الصورة الشعرية التي عن طريقها يستطيع التقاط صور جزئية غير مترابطة، ليربطها بأسلوبه الفني، عن طريق تقنية المونتاج، لنظفر بصورة كلية. وكأننا أمام فيلم سينمائي، مستفيداً من تلك الثقافة، التي منحته القدرة على التجديد والتجريب والابتكار، متجاوزاً المنجز الشعري القديم، وكل ما يحمله من تقريرية ومباشرة، من خلال الرؤية الداخلية، والخارجية الذاتية». فيما عدّه الشاعر محمد جبر الحربي شاعراً مشى دربه خطوة.. خطوة، إلى أن بنى بيننا وبينه جسراً من القصائد العظيمة كأشجار فارعةٍ ثمارُها نائيةٌ دانية.. وأضاف: مرتْ قصائد بدر بن عبدالمحسن كجمال الفصول، كستائر منتقاةٍ بحرصٍ، لا لتحجبَ النور، بل لتوزِّعَه بحكمةٍ داخل البيوتِ والصدور، كما يوزع (موزارت) نغمات البيانو بفرح عبر التاريخ.. إنَّ في كل قصيدة روحاً، وفي كل روح نبضاً، وفي كل نبض كلمة تسكن القلب وتبقى.. كشلال ضوءٍ يمر على عين طفلٍ.. والتفاتةٍ لنافذة».
وعن ثيمات أغنيات البدر يذهب الناقد طامي السميري إلى أن السلام ثيمة كبرى في نصوص البدر، التي حضرت مع محمد عبده في (يا حابس النور)، (سلم علي ينجلي همك)، ثم في (ردي سلامي)؛ «ردي سلامي للهوى/ عذب السلام»، ومع عبدالمجيد عبدالله في (تخيل)، (سلم أبرد السلام)، ومع علي عبدالكريم في (سلام يا رمش)؛ «سلام يا باهي الخد/ سلام يا ذبح القلوب الخلية/ أنعم من النسمة على الخد/ وأغلى سلام لو ترده علي». إضافة لثيمة الفراق، التي وردت في أغنية (أبعتذر)؛ «والله عليم يا أحلى العيون/ إن الفراق جزا الفراق/ أبجمع أوراق السنين وأودعك/ كان الفراق اللي تبين، الله معك»، وفي أغنية (الرسائل وليلة كانت الفرقا)، وفي أغنية («مرتني الدنيا)؛ عشاق ليلة وتفارقوا/ وصاروا بعيد»، وفي أغنية (تخير)؛ «أنا ما أشير بالفرقا، ولا أحدك على المقعاد»، وثيمة العيون السود المرتبطة دائماً بالليل، التي حضرت في أغنية (حق العيون السود السمع والطاعة)، وفي أغنية (الرسايل) لمحمد عبده «دمعة العين الكحيلة»، وفي أغنية (صابني) لطلال مداح (صابني بالهوى سهم العيون).
يحيى زريقان: أسس لمستقبل الشعر.. ومواقفه الإنسانية نبراس
أكد الناقد الفني يحيى مفرّح زريقان أن بين البدر وبينه الكثير من المواقف والحوارات منذ عرفه عام 1978م، ويرى أن البدر ظلّ النبيل الوفيّ إلى سفره الأخير لرحلته العلاجية، وكشف موقفين في حياته لا ينساهما أبداً، الأول: عندما كان محرراً فنياً في مجلة اليمامة، واتصل عليه وطلب فزعته، فقال -رحمه الله-: جايك المكتب، فقال يحيى: المكتب طالب عمرك زحمة، ولكن أجيك البيت. فقال: طيب أنا خارج البيت والآن أرجع. فذهب لبيته، وأبلغه أنه بقي عليه صفحتان لم يحررهما. فحرر البدر معه باقي الملحق، ورسم معه الماكيت، وحمل زريقان الصفحات للمطابع، وهذا تأكيد للمؤكد بأنه الفنان الإنسان. وعن الموقف الثاني يقول: تعرضت لضغوط من الإخوان المسلمين، فكان الوحيد الذي وقف معي بدر بن عبدالمحسن الذي أعدّه مؤسساً لمستقبل الشعر.
ولا ريب أن تجربة البدر الحداثية غدت منهجاً ونبراساً فسار على دربه شعراء وكتاب كلمات غنائية، في دلالة على أنها حظيت بالقبول، وتلقتها الذائقة باحترام، ما يؤكد أن البدر كتب بروحه فتسللت لأرواح الناس، لتتبنى مشاعر (بدر) أشعل في ليل اليأس شمعة، ورحل في موسم الورد الذي فضح عطر البساتين.