تفترض النُخب في المثقف استقلاليةً تامة، إلا أن مثل هذا الافتراض الجائر والتصور القائم على (مثالية يصعب تحققها)، يتلاشى تدريجياً، بحكم أن ظروف المثقف في العالم العربي ليست هي ذاتها في الغرب، كما أن البناء المجتمعي يختلف كلياً، وقوانين وتشريعات الدول تتباين، وفي ظل ما يتطلّع إليه جمهور الثقافة من صدع الكاتب بما يرونه حقاً، ومطالبته بالاصطفاف مع الناس لنقد القرارات، والانتصار للغلابة، سرعان ما ينقلب المطالبون عليه بمجرد دخوله في مواجهة، أو تعرضه لمساءلة، ليردد هؤلاء الطامحون لانتصار المثقف ليومياتهم، يا كم نصحناه وما سمع الكلام، ما يحتّم على المثقف تحكيم العقلانية، والتحرك وفق ما تتيحه الموضوعية، كونه يكتب ليكسب ويعيش فهو إنسان له متطلباته، وعليه التزامات شأن غيره، وإقحام نفسه في صراعات رهان خاسر، ويظل في الحد الأدنى متمسكاً بمبادئه، ومنها الحفاظ على الوطن، واحترام سيادته، والتصدي لمن يحاول النيل منه، فالانحياز للأوطان محمدة لا مثلبة، وجسر يعبر به المثقف الأشبه بالعابر حقل ألغام.
وهنا؛ تطرح «عكاظ» نظرية استقلالية المثقف المتداولة في الأوساط، ربما لا تفرق بين المغامرة والمقامرة، وهذا بعض ما خرجنا به من المثقفين، إذ يؤكد أستاذ علم الاجتماع السياسي الدكتور محمد غانم الرميحي، أن المثقف لا يمكن أن يكون مستقلاً إلا بتوفر ثلاثة شروط (حريات مجتمعية، تكون الدولة حامية للقول بالقانون وبوضوح على أن يتقبل المجتمع تلك الحرية كونه في كثير من الأوقات تحد ضغوط المجتمع من الحريات وليس الدولة). مضيفاً أن المستقل لا بد أن ينفك من الارتباط بأيديولوجية مسبقة، وأن يكون منفتحاً على الرأي والرأي الآخر، وأن تكون لديه قناعة أن الآخرين ربما يعرفون أكثر مما يعرف، لذا عليه قبول و جهات النظر العقلانية، لافتاً إلى الاستقلالية المادية، فلا يكتب لأنه يريد أن يعيش فينافق مؤسسة أو نظاماً أو شخصاً. ويرى الرميح أنه لا يوجد رأي مستقل في دولة شمولية أو في ظل ارتباط بأيديولوجية أو استتباع مالي أو اجتماعي (قبلي / طائفي)، وطالب المثقف الطامح للاستقلالية بتأسيس ثقافته على القراءة الجادة والعناية بقيم إنسانية واجتماعية شاملة، وعدّ التعصب في الرأي عيباً وليس من شيم المثقف المستنير فرأيه نسبي وليس مطلقاً ولا معصوماً كما قال.
وعزا الناقد محمد الحرز، غياب الدور الفاعل للمثقف إلى طوفان التغيرات التي عصفت بالعالم العربي منذ دخوله الألفية الثالثة، مستعيداً عصر النهضة في القرن التاسع عشر الذي أنتج مثقفين كباراً في سلوكهم وخطابهم ومنهم الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وطه حسين وأحمد أمين، وقبلهم خيرالدين التونسي، إذ كان لهؤلاء اجتهادات في السياسة والدين والاجتماع، مشيراً إلى أنه رغم الانتكاسة والنكوص اللذين حصلا لاحقاً، إلا أن تلك الحقبة تركت بصيص أمل للخروج بالعالم العربي من مآزقه العديدة، وتساءل الحرز: بأي معنى يكون المثقف مستقلاً طالما لم يكن له دور فاعل؟، وبأي معنى أيضاً يكون مستقلًا؟، خصوصاً إذا ما أدركنا أن في تاريخنا الإسلامي لم يكن يفهم الاستقلال إلا في إطاره الثقافي والفكري، بينما لو تأملنا التاريخ الغربي الحديث، نجد وظيفته ترتكز بالأساس على الأثر الذي يتركه هذا المثقف أو ذاك على قضايا الشأن العام.
فيما عد القاص سمير الفيل استقلالية المثقف العربي محض أوهام، ويرى أن استقلالية المثقف موضوع مثير للألم والتوجس والريبة، فأغلب مثقفينا الكبار لا يتمتعون بتلك الاستقلالية، ويرتبط نشر كتاباتهم بكون الخطوط العريضة لما يكتبونه لا تتعارض مع توجهات السلطة القائمة في بلادهم. ويذهب إلى أن هذه الظاهرة لم تمنع من وجود كتاب ومثقفين لهم نزعة التحرر من أجهزة الرقابة، وضرب مثلاً بعباس محمود العقاد الذي تعرض للسجن رغم تمتعه بمقعد بمجلس النواب، لافتاً إلى أن طه حسين كان أكثر جرأة في تقديم تفسيرات تاريخية لا يقبل بها المتزمتون ما عرّضه لغضبة قوية جعلته يخفف بعض الشيء من نبرته، فيما تحقق لعلي عبدالرازق قدراً من الاستقلالية في حديثه عن عدم ارتباط الخلافة بالسلطة المدنية. ويرى الفيل أن الخروج على النسق واضح في دواوين الشاعر أمل دنقل، وكتابات الدكتور فرج فودة، والدكتور سيد القمني، وتجارب بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي، والطيب صالح الذي ضرب بسهم وافر في اتخاذ مادة الجنس تياراً في كتاباته. وإبراهيم الكوني باستعادة أسطورة الصحراء، مشيراً إلى نزعة استقلالية الشاعر علي الدميني الذي كتب الشعر والرواية والنقد بنزعة استقلالية واضحة، والشاعر حلمي سالم الذي اصطدمت به القوى السلفية المحافظة، عندما تحدث عن شرفة ليلى مراد، ويرى الفيل أن على كل مثقف تحديد أولوياته وتكوين وجهة نظر تنتصر للاستقلالية أو تتجه للكتابة الحرة، كون كاتب بلا موقف لا يعول عليه كثيراً.
ويذهب الناقد الدكتور فوزي خضر إلى أن المثقف (الحقيقي) لا بد أن يكون مستقلاً في رأيه وفي رؤيته وفي مواقفه؛ لأن هناك فرقاً بين من يمتلك المعرفة والمثقف، والفرق بينهما أن المثقف هو الذي يستفيد من معرفته في تحسين سلوكه، ولا يوجد حَسَنُ السلوك إلا إذا كان حَسَنَ الأخلاق، فكلمة الثقافة جاءت من تثقيف الرماح؛ أي تهذيبها كي تستوي وتعتدل، وثَقِفَ الشيء أي ظَفِرَ به، فالمثقف هو الذي حصّل المعارف واستفاد منها في تهذيب أخلاقه وسلوكه، ويرى أن المثقف الحقيقي لا يمكن أن يكون موارباً أو مخادعاً أو تابعاً، ومن كانت فيه صفات المواربة أو الخداع أو التبعية -مهما تجمع لديه من معارف- يكون عارفاً لكنه ليس مثقفاً.. وعدّ من صفات المثقف الحقيقي سواء أكان في عالمنا العربي أم في غيره، عدم تغيّر مواقفَه بحكم الظروف ولا تتحول، ولا يهتز ما يتمسك به من قيم ومبادئ مهما كانت قوة عصف الرياح.
فيما قال الكاتب علي عطا: بصرف النظر عن المقصود تحديداً بالمثقف، على اعتبار أن تعريفاته كثيرة، وبصرف النظر عن المقصود على وجه الدقة بالاستقلال، فإنني سأتعامل مع الأمر في أبسط صوره بمعنى أن المثقف هو شخص متورط بالضرورة في الشأن العام، وعدّ الاستقلال (بمعنى النأي بالنفس) ترفاً لا يملك المثقف بالمعنى الذي أقصده أن يختاره أو حتى أن يطلبه مهما واجه من صعوبات مترتبة على تمسكه بما يؤمن به من مبادئ وقيم وتصورات تخص العالم الواسع وعالمه القريب على حد سواء. وذهب إلى أن استقلال المثقف عن السلطة الحاكمة في بلده أمر بعيد المنال؛ لأنه بحكم ارتباطه الحتمي بالشأن العام واستحالة أن ينعزل عنه يكون على تماس مع تلك السلطة بنقده لها قدر المستطاع بغرض تحقيق وضع يحترم حرية التعبير ويتقبل الرأي المخالف والمعتقد المخالف وصولاً إلى تعايش يضمن سلم المجتمع وازدهاره.