تتركز أزمة الفكر العربي الحديث في ثلاثة محاور على الأقل، وبينها عدد من العناوين الفرعية، والمحاور الثلاثة تتضمن العلاقة بين الحداثة والتراث، والعلاقة بين الوطني وما فوق الوطن وما قبل الوطن (مشكلة الانتماء أو الهوية)، والعلاقة بين (الديمقراطية، والشمولية) في الإدارة السياسية والاقتصادية.
ويظل بين الحداثة والتراث نقاش واسع على الأقل من بداية القرن العشرين وإلى اليوم، كون الفكر العربي لم يوفّر أي روابط للتجسير بين الفكرتين؛ بسبب فقدان الحوار البناء، فيما علاقة الثقافة العربية بالمركزيات الكبرى، ومنها المركزية الأوروبية بشكل عام، والمركزية الإسلامية بشكل عام.
وما برحت الثقافة العربية تستجيب للحداثة إما بشكل سلبي أو بشكل انتقائي، ما شكّل ضموراً في الثقافة العربية، وإذا ما نظرنا إلى المركزية الثقافية الأوروبية، فنظرتنا إما نظرة عداء وقطعية أو شبه قطعية وفي أحسن الأحوال انتقائية، فيما يبادر البعض نحو اندماج كامل دون النظر للخصوصيات الثقافية والفرق بين المتحول والثابت؛ ولذلك ظهرت مفاهيم، ونوقشت في الفكر العربي، لزمن طويل، مثل (الأصالة والمعاصرة) و(الذات والآخر) و(بين الماضي والحاضر)، وانقسم الوعي العربي بسبب ذلك إلى قسمين متناحرين، إذ غدت تلك المفاهيم بذاتها مرجعيات ثابتة، كل منها يحتكر الصوابية ويُسفّه الرأي الآخر ويدّعي احتكار الحقيقة.
وإذا كانت منظومة ترى تحقق التحديث المطلوب بالاندماج التام والكلي في ثقافة الآخر، فإنه بالمقابل هناك منظومات ترى أنه لا بد من الاعتصام بالذات، والصدام مع الآخر، والتشبث بالتراث، لأنّ كل مآسي الأمة ناجمة عن إهمال التراث، وفي نظرهم (التراث كل ما خلفه الأجداد)!
من هنا فإن الدعوة للنقد العقلي وتمحيص التراث من جهة، وقدرة الأمة على الاندماج في الحداثة؛ كونها لا تتناقض مع أصول التراث ضرورة للنقاش، وإن كانت الدعوة خجولة أو غير قادرة على الانتشار، بحكم ما لحق بها من اتهامات منذ المفكر محمد عبده، مروراً بعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وليس انتهاءً بعدد من المعاصرين؛ ومنهم حسين مروة.
ورغم تجذر فقه المصالح، في الثقافة العربية الإسلامية المستنيرة منذ الغزالي والشافعي، ونجم الدين الطوفي (الحنبلي) الذي أصّل الفكرة بمقولة «الثابت في التراث هو العقيدة والعبادات» وما بقى فهو من جملة (المصالح)، وقال: حتى لو تعارض النص مع المصلحة، تفضل المصلحة، وكانت مرجعيته قرارات عمر بن الخطاب في عام الرمادة.
ومما يؤسف له أن الفكرة محاربة إلى اليوم، وبقسوة من البعض، وهناك كتابات متشددة ضدها، في العصر الحديث.
وعلى مستوى الوطن، فإنّ الولاء للدولة الوطنية المدنية العادلة لم يتبلور، وهي ظاهرة سياسية، اجتماعية، ثقافية تاريخية، وربما جزء منها نابع من المحور الأول.
ومن المآخذ، خلط البعض بسبب التعليم والإعلام والظروف التي مرّت بالعرب بين الوطني والقومي والإسلامي، فالدولة الوطنية، وإن كانت حديثة في الزمن، إلا أنها واقع على الأرض، والخلط بين الهوية الوطنية وما فوقها، وما قبلها، مسبب رئيس في خلل الهوية، وهناك جماعات سياسية وربما فكرية من العرب تنظر إلى الوطن بصفته ثانوياً على القومي، والمفكرون القوميون لم تكن لديهم قناعة بالدولة الوطنية، والشواهد لا تزال ماثلة في الوعي والوجدان منها (الغزو العراقي للكويت) وأيضاً (القضية الفلسطينية)!. والمغرمون بمصطلح (الأمة الإسلامية) والدولة (الإسلامية) ليس لديهم أي مشكلة في التضحية بالوطن من أجل شكل أكبر من الدولة، فيما جماعات ما دون الدولة تنمي دور القبيلة والطائفة في اليمن وفي لبنان؛ بسبب فشل الدولة الوطنية في المساواة بين مواطنيها وربما بسبب الانتماء الأيديولوجي! ولهذه الأسباب وغيرها فإن فكرة الدولة الوطنية غير راسخة على أقل تقدير.
ولعل أكثر ما اُبتذل في حياتنا الثقافية هي الديمقراطية، وتبنت دول مصطلح الديمقراطية في اسمها (الجمهورية الديمقراطية الشعبية)، والديمقراطية وسيلة للدولة القانونية وليست غاية، لتحقيق المساواة بين المواطنين، وتقديم خدمات ذات سوية عالية في التعليم والصحة والطرق، وهي ليست صناديق انتخاب، وليست تصويتاً ولا حملات انتخابية، بل مدنية عادلة قانونية (القانون نابع من حاجات الناس متوجه لحل مشكلاتهم)، ولا تتحيز لطائفة أو قبيلة أو مذهب، وكل تجارب الديمقراطية في الفضاء العربي دون استثناء وصلت إلى طريق مسدود؛ لأن الديمقراطية ثقافة قبل كل شيء، ووسيلة في الأصل.