سُهولة النَّشر والظُّهور الإعلامِي، وانفِتاح المشهَد على أشكَال عديدَة من اللقاءاتِ والحِوارات، عبرَ المقاهِي والملتقيَات؛ أنتج سُيولة كتابيَّة، خصوصاً في الجوانبِ الإبداعيَّة، التي احتاجَت مُقاربات مكثَّفة لدراستِها واستيعابِها، ضمنَ الحركَة الثقافيَّة؛ من أجلِ توجِيهها، والأخذِ بيدِها، وهُو أمرٌ ليسَ باليسِير، في ظلِّ نقصِ النُّقاد القادِرين على أداءِ هذهِ المهمَّة؛ ما أدَّى لظُهور ناقِد مختلِف.
اُستُبدِلت صُورة النَّاقد المتأمِّل، الباحِث، المنكبِّ على الدِّراسة، الغارقِ في مكتبتِه؛ بصُورة القَارئ المتصفِّح، الذي يُعطي أحكاماً وقتيَّة، تملأُ فراغَ اللحظةِ الرَّاهنة، ولا تتجاوزُها إلى الماضِي أو المستقبَل، فما يهمُّ هُو الآن، لا ما قبلُ، ولا ما بعدُ، مدفوعاً بتنوُّعات الكتابةِ والكَاتب، حيثُ الكتابةُ تشظَّت، وانقسمَت شعراً ونثراً إلى أنوَاع؛ اِستَبدَلت القوانِين الصَّارمة، بأُخرى مرِنة، وأكثَر سُهولة، مهَّدت الطَّريق؛ لإضافةِ عددٍ كَبير من الكُتَّاب.
تكَاثرت الكتاباتُ وفاقَت الحدُود، حتَّى لم يعُد باستطاعةِ النَّقد مُجاراة الإبدَاع، إذ امتلأَ المشهدُ بسَيَلان كِتابي وانكِماش نقدِي؛ أدَّى إلى ترسيخِها كثنائيَّة تحكُم الفضَاء الثَّقافي، وتضعُ قوانينَه المنظِّمة، حيث انكماش النُّقاد، قابلَه زيادةُ الكُتَّاب؛ ما دفعَ العديدَ منهم إلى الشَّكوى من عدمِ وجُود ناقِد متابعٍ للحركَة الإبداعيَّة؛ يقرأُ، ويُقيِّم، ويُبدِي الملاحَظات، فيُعيِّن الخطَأ، ويُصوِّبه، لكنَّ هذهِ الشَّكوى سُرعان ما اصطَدمت ببُروز النُّقاد الجُدُد.
ليسَ المطلُوب ناقداً جالساً إلى مكتبِه، يتأمَّل في كتاباتِه وكتاباتِ المبدعِين، بل المطلوبُ ناقدٌ يفهمُ عصرَه، ويُواكبه، قادرٌ على مُجاراة سُرعته، وتشظِّيه؛ لهذا تمَّ استبدالُ ناقدٍ بآخر، حمَل مهمَّة الاطِّلاع على النُّصوص والتَّجارب، وتقديمِ قراءاتٍ سَريعة وجُزئيَّة، بما يمتلكُ من خِبرة وثقافَة، يساعدُه عددٌ لا محدُود من القُرَّاء، الذينَ سيتعاونُون في تقديمِ قراءاتِهم.
نُقاد ما بعدَ الحداثَة، النُّقاد الجُدُد، القُرَّاء؛ مصطلحاتٌ متعدِّدة تُشير إلى هؤلاءِ الذينَ عمدُوا إلى تقديمِ قراءاتٍ نصيَّة، حتَّى وإنْ لم يمتلكُوا الحدَّ الأدنَى من المعرفةِ النقديَّة؛ لعدمِ شُعورهم بالحاجَة إليها، حيثُ لا يطلب المبدعُون أكثرَ من إلقاءِ الضَّوء والتَّعريف بكتاباتِهم، أمَّا الجِديَّة، والصَّرامة، والتعمُّق في القِراءة، فأصبحَت أموراً غيرَ مرغُوبة، ولا يتمُّ التَّرحيب بها، وهُو ما أدخلَ أَخلاقيَّات جَديدة، ليسَت من صِفات النَّاقد، الذي ينبغِي أن يتَّسِم بالحِياد، والموضُوعية، والصِّدق.
الناقدُ المحايدُ لا يُبدي تعاطفاً معَ الكَاتب وكتاباتِه، بل يستغرقُ في أداءِ مهمَّته دُون النَّظر إلى تأثيرِها عليه، وهُو ما يرفضُه النُّقاد الجدُد، إذ يروُن فيه حدَّة غيرَ مُستساغة؛ ستُفضي إلى قتلِ الإبدَاع، فتأثَّرت أحكامُهم، وأصبحَت تُراعي حالةَ الكاتِب النفسيَّة والمزاجيَّة؛ لهذا باتَ من المألُوف تعبيرُهم عن حبِّ هذا الكَاتب أو تلكَ الكَاتبة، وإشادتُهم المستمرَّة بما يكتُبون، وهُو أمرٌ فتحَ البَاب لخرُوج الموضوعيَّة والصِّدق؛ حيثُ لا معنَى لبقائِهما، طَالما اقتصرَ النَّقد على المدحِ والتَّبجِيل.
مديحُ الكاتبِ من أخلاقيَّات النُّقاد الجدُد، الذينَ اندفعُوا إلى ذلِك بسببِ امتلاءِ الفضَاء بالكُتَّاب المبتدئِين، فالجلساتُ الحواريَّة والقرائيَّة المباشِرة، لا تُمكِّنهم من وضعِ حواجزَ فاصِلة، بينَهم وبينَ المبدعِين، لهذا اضطرُّوا لمراعاةِ حالتِهم النفسيَّة والمزاجيَّة؛ ما أثَّر سلباً على أحكَامهم، التي ابتعدَت عن المصداقيَّة، واكتفَت بالتَّصفيق والإشادَة، لتتحوَّل القِراءة إلى اِحتيَال وخِدَاع؛ قادَ إلى تقدِيس الكتابَات، وعدَم القُدرة على المسَاس بها، كَما أدَّى إلى تكرِيس أخلاقيَّات جديدَة، واعتبارِها عرفاً ثقافيّاً.
خِداعُ المتلقِّي، والاحتيالُ عليه؛ باتَت ممارسَة شائِعة بينَ النُّقاد الجدُد، الذينَ أمسكُوا بالمشهَد الثَّقافي، فأخذُوا يضعُون قوانينَهم الخاصَّة، متجاهلِين المعاييرَ النقديَّة الصَّارمة، الأمرُ الذي أدَّى لظهُور أخلاقيَّات نقديَّة جديدَة؛ هدفُها تبجِيلُ الكاتِب، والإشادةُ به، ولا شيءَ آخر.