حين بُثّ فيلم (أثينا) لمخرجه الفرنسي رومان غافراس (2022) على منصة نتفليكس، كتب نقاد السينما أن السيناريو مستوحى من الأسطورة الإغريقية التي تستحضر العنف الحضري بين الأحياء، وأن غافراس جعل من الضواحي طروادة فرنسا. فقد وظف رومان غافراس الأسطورة اليونانية على الواقع الفرنسي، اذ ظهر مشهد حصار حي أثينا من قبل قوات الأمن الفرنسية وكأنه حصار طروادة لكن دون حصان هيلين.
الذين كتبوا عن «أثينا» في وقت صدوره، برعوا في انتقاد السيناريو الذي خلط أوراق الكثير من السياسيين، بينما ذهب آخرون للاستدلال على ثيمة السيناريو في مناظراتهم الانتخابية حد الدعوة لخطر الجاليات في الضواحي، وأنهم القنبلة الموقوتة التي يجب تفكيكها، لكن كيف؟ لا جواب.
«أثينا» أُعيد للواجهة وكأنه كان نذير شؤم على أجيال الضواحي، خصوصاً بعد مقتل الشاب نائل.
فالمقاربات التي تمت بين فيلم «أثينا» وأحداث المدن الفرنسية هي من قبيل إضافة الغضب إلى الغضب ورفع درجة نبذ الآخر؛ أياً كانت أصوله، وهو إيحاء ألا أحد يريد بذل الجهد لسماع الآخر!
سيناريو حصار «أثينا»
بينما تتسارع مشاهد الفيلم في استعراض ضخم للقوة والعنف، يجس المخرج نبض الإنسانية بمفهومها المطلق ومبدأ الأخوّة بمفهومها الضيق كنموذج نفساني اجتماعي، حيث يحاول (عبدال) ترميم الشرخ الذي أحدثته حادثة مقتل أخيه إيدير، وذلك بترميم أفكار الشباب داخل حي أثينا.
فبعد اختطاف جيروم (أنطوني باجو)؛ وهو شرطي أمن فرنسي من أجل مقايضة السلطات الفرنسية لتسليم قتلة إيدير إلى العدالة، رفض البطل عبدال التخلي عن الرهينة الفرنسي المحتجز من قبل عصابة حي أثينا، إلا أن زجاجة حارقة غيرت مسار عبدال وفككت إيمانه بأن العدالة لها وجه واحد.
«أثينا» يعيد للأذهان لغز إيدير ونائل
أشعلت حادثة قتل مأساوية راح ضحيتها شاب فرنسي قاصر إيدير (فرنسي من أصول جزائرية) على أيدي الشرطة الفرنسية نيران حرب مستعرة في مجمّع يسمى «أثينا» وهو عنوان الفيلم (2022)، ليجد أشقاء الضحية الأكبر سناً أنفسهم في قلب احتجاجات وصراعات انحرفت إلى عمليات عنف وتخريب بعد انفجار أول زجاجة حارقة أنهت جهود التهدئة، وجعلت أحياء الضواحي في حالة استنفار قصوى، سواء من حيث الجانب الأمني (الشرطة) أو شباب الأحياء.
البطل الرئيسي في فيلم Athena هو عبدال (وهو اختصار لاسم عبدالرحمن أو عبدالملك…) وهو مجند في صفوف الجيش الفرنسي، وتم استدعاؤه من جبهة القتال بمالي؛ حيث كان يشارك مع الجيش الفرنسي في مهمة عسكرية، عاد عبدال بعد وفاة شقيقه الأصغر إيدير، الذي توفي نتيجة لتدخل وحشي للشرطة.
يعد مشهد البداية المتعلق بمؤتمر صحفي للسلطات المحلية في فرنسا للتهدئة بعد وفاة القاصر ذي الـ13 عاماً، نقطة مقاربة بين وقائع الفيلم «أثينا» وأحداث ننتير بعد مقتل نائل (17 عاماً)، إذ يقف في فيلم أثينا المحامي ياسين بوزرو فرنسي من أصول مغربية، مثل دور محامي عائلة الطفل إيدير في الفيلم.
وهو محامي عائلة نائل المرزوقي نفسه الذي قتل في ننتير بالضواحي الفرنسية.
ويسوء الوضع أكثر بعد أن أقدم كريم شقيق إيدير، على إلقاء زجاجة حارقة على مركز الشرطة المحاذي لمكان المؤتمر بعد قدومه رفقة أصدقائه من الأفارقة، ليتم إثر ذلك الهجوم على مركز للأمن والاستيلاء على الأسلحة والذخيرة والمركبات.
رغم كل محاولات عبدال للتهدئة بعد مقتل شقيقه الأصغر إيدير وبين رغبة شقيقيه في الانتقام، حيث كان الأخ الأصغر كريم يقود عصابة أحياء ملثمة، بينما يتاجر الأخ الأكبر مختار في المخدرات، لم يتمكن عبدال من تجنب الانفلات الأمني الذي وقع في حي أثينا.
ويوماً بعد يوم، يتحول حي أثينا إلى قلعة، ويتحول الحي مسرحاً لمأساة عائلية ومجتمعية. ففي الوقت الذي يعتقد الجميع أنهم على وشك الوقوف على الحقيقة، يتحول الحي إلى مسرح للصراعات والفوضى والقتل. بل تتطور المشاهد لنرى كيف يتم توظيف صورة المعتنق للإسلام، والمتمثلة في شخصية سيباستيان (أليكسيس ماننتي) الذي اعتنق الإسلام حديثاً، يهتم ببستانه ويختص في صناعة المتفجرات.
تتطور الأحداث وتخرج عن السيطرة، ويبقى عبدال يحاول ترميم النفوس لتهدئة الوضع، إلا أن الحبكة السينمائية تقضي بتحول خطير في مسار عبدال بعد احتجاز أنتوني باجون في فريق أمن التدخل السريع CRS من قبل العصابة الملثمة من أجل مقايضة السلطات لتسليم قتلة إيدير إلى المحاكمة، إلا أن تشبثهم بروايتهم يقلب الموازين ويحاول عبدال حماية الرهينة داخل عصابة شقيقه لتجنب الكارثة، إلا أن مقتل كريم برصاصة قناص يفقد عبدال عقله ويتحول عن دعمه للشرطة ويصطف إلى جانب أصدقاء أخيه كريم، لكن الفرنسي المعتنق للإسلام سيباستيان يحول دون إرادة عبدال في معرفة قتلة أخيه إيدير.
يحرر الشرطي وبقية أصدقاء أخيه كريم بعد أن أخبروه أن سيباستيان فخخ العمارة كلها.
ينتهي الفيلم بإظهار حقيقة قتلة إيدير، ويكتشف المشاهد غياباً للأشرار الحقيقيين بعد تطور الأحداث، وأن القتل هو عمل أعضاء مجموعة يمينية متطرفة صغيرة متنكرة في زي ضباط شرطة، ما يؤدي إلى دخول البلاد في حرب أهلية.
جدل حول تشابه الأحداث
الفيلم يروي مأساة عائلات مهاجرة يعاني أبناؤها من الجيل الرابع العنصرية والتمييز والتهميش، ولكنه في الوقت نفسه يلقي خطاباً سياسياً (مثيراً). فالطريقة التي يسحب بها غافراس الموضوع في الجزء الأخير المفجع، يبدو طمس الخطوط المحددة بجلاء لأجزائه المتضاربة، ويبدو واقعياً ومأساوياً في آن واحد.
فدون البراعة الفنية البصرية للمخرج، كان سيكون فيلم «أثينا» قصة لكارثة مستمدة من واقع الفساد السياسي للعالم الغربي، الذي تَسِمُهُ العنصرية والانقسامات الخطيرة والفساد المنتشر في دواليب المؤسسات.
سيناريو «أثينا» الذي وصف معاناة ومأساة عبدال وكريم بشكل درامي تجاوز صراع الميلودرامية الكلاسيكية ليصبح مأساة سياسية كبيرة تخلق المقاربات في الصراعات السياسية، وتجعل من الجاليات الإفريقية والمغاربية وقوداً في صراعاتها، متخطين بذلك قوانين الجمهورية ومبادئها.