يعبّر الشاعر اليمني فتحي أبو النصر، عن قناعاته بجرأة لا تخلو من تهذيب، وكثيراً ما يجد نفسه في حلبة هزائم، فتنتشله كفوف النصر بالفتوحات، ساخرٌ وجاد ويضحك من الحزن أكثر من ضحكه بالفرح، يضعه الحنين لليمن في خانة المتطرفين وجدانياً؛ ويدافع عن أفكاره بضراوة، لكنه لا يفخر بخسارة أحد، وهنا حوار يكشف جانباً من شعريته القائمة، ويساريته الحادة:
• ماذا يشغل بال الشاعر فتحي أبو النصر؟
•• في الجانب الشعري، لحظة تنوير وقبس لا تتكرر ولا أعرف أين سأجدها، لكن هذه الرحلة الشقية لذيذة. في الجانب الآخر حلم عربي كبير يرتكز على متحول ثقافي مدني ثابت على جناحي الحداثة والديمقراطية. يندغم ذلك الحلم على الحياة الإنسانية وديمومة التاريخ والجغرافيا في منطقة عربية تضطرم بحروب وانهيارات جيوش وتربص ميليشيات وتطييفات وانهيارات قيم و«زمن أسود» حسب تعبير بريخت.
• لماذا تشظى المشهد الثقافي العربي؟
•• لأنه لم يكن متماسكاً أولاً. ثم أن السياسة، أفسدت المثقف، والمثقف الذي نجا، إما أنه دخل في متاهة لقمة العيش أو التطبيل. لكن منذ رفاعة الطهطاوي إلى أدونيس مرورا بالغذامي ظلت الصرخة واحدة.. الحداثة. وفي طور ذلك استمرت الشلليات والمركزيات الوهمية الثقافية التي ارتكبت جناية متفسخة بحق الوعي المختلف والتفكير بحساسية جديدة.
• هل المثقف ضحيّة أم سبب فيما يحدث؟
•• من هو المثقف بالضبط؟! لقد تبدلت الأشياء رأساً على عقب. أنا رجل لم أعد أؤمن بالنخبة والمثقفين.. رجل الشارع هو من يقود الوعي الحقيقي الآن. صار المثقف التقليدي مجرد فراغ. ومشكلة المثقف العليا ازدواج المعايير. المثقف بالطبع شبه ضحية لكنه ساهم في ذلك.. ما حدث في 2011 مثلاً كان انفجاراً ثقافياً لم يستوعبه المثقف العربي المنحاز، موجات الشارع تقدمت عن السياسي بل والثقافي رغم كل الأخطاء.
• ما أثر الأدلجة والتسييس على الكتابة الإبداعية؟ •• لم تجعلها نقية..وأعترف.. ما تشهده من ذلك خلال 5 عقود أخيرة يؤكد الانهيار الإبداعي لصالح الأيديولوجية المنهارة أصلاً. الأدلجة تخر بالإبداع.. تؤطره. تجعله كحظ سيئ. الإبداع غاية أخلاقية. التسييس تحيز وتشويه. سيطرة مريعة على الأذهان. إرجاع للإبداع لصالح الصخب والصراخ الفارغين. الكتابة الإبداعية الحرة هي حبل الخلاص ونحن نعيش كماشة اليسار واليمين باسم الثقافة وأحيانا باسم الوطن ما بالك بالإبداع.
• أين تضع الحالة الثقافية اليمنية؟ •• مثل كل حالة ثقافية عربية.. مع أن السعودية تقود الحداثة العربية الآن بجدارة ومفارقة.. انهارت مركزية العراق ولبنان وحتى مصر تعبت.. في اليمن التخلف سيد الموقف.. الثقافة حالة متغربة في البلد.. انظر للحرب وتداعياتها.. التحول للحرب ما جاء من فراغ بل من حالات سياسية واجتماعية وثقافية منسدة. غير أن هناك أصواتاً مشرقة بالتنوير والضوء والضوابط الثقافية العربية العليا في الهم المشترك. إن المبادئ الجمالية لليمنيين واحدة وعلى هذا أراهن.
• هل طاب المهجر للنُخب؟ وهل كانوا يتمنونه؟ •• المهجر كلمة تنخر الروح.. دعك من النخب الحربية..أتحدث عن نخب لديها التزام قيمي. لا أحد يتمنى الرحيل الإجباري عن بلده. المهجر جرح عقلي وعاطفي لايندمل بسهولة. كأنك ترى الأشباح في ساحة قلبك يرقصون وأنت بصالة عزاء.
• ألا يضيق كل فضاء بمثقفيه، فكيف بمن يستوعب مغايرين له؟ •• الاختلاف في التنوع فضيلة.. هناك طغيان لعدم التعدد في التوحد. هذا الموروث الضال أفقدنا اليقين باستيعاب ما يسمى الآخر. نحن في الحقيقة «واحدان» كما أرى. دعك من المثقف الذي يلبس الأقنعة في ممارسته الحياتية. أتحدث عن المثقف بمعناه الملتحم بطموحات المجتمع وتطور الدولة. المثقف الحاد الذي بلا بهرج أو خداع. غير كل هذا تستمر السطحية بل واللا معقولية والخطيئة باسم الثقافة.
• برغم موت زمن الشعارات لا زال البعض يردد ويستعيد عناوين مرحلة أخفقت بكل معنى الكلمة؟ •• كثيرون أخفقوا.. كل التيارات بلا استثناء.. انهارت السرديات الشعاراتية الكبرى صحيح. الآن مرحلة ذات أبعاد مختلفة وحساسية تنبثق من بين الرماد كطائر الفينيق.
لا أعرف ماذا تقصد بالشعارات تحديدا ولكنني أرى أن أي شعار لا يؤدي إلى توازن مجتمعي فارغ المعنى. قد تعني زمن اليسار الضاج أو الإسلام السياسي الإخواني المعزز بكتائب وشلليات باسم الثقافة بل ودور نشر ومجلات ومترجمين.. أتفهمك. لكن الإحساس المتجسد للمرحلة يتطلب تجاوزهما تماما.
• كيف تقرأ إصرار الإسلامويين على البقاء في المشهد؟ •• لا تستطيع رميهم للبحر ومشكلتهم التحجر وعدم المراجعة.. أثق في أن التحولات العاصفة ستجعلهم يستوعبون. لقد أخّروا تقدم العرب عقوداً. استغلوا أبرز قضاياها حد النخاع. أخطاء رهيبة وممارسات سخف وترهيب تكفيري وكفتاوى راكمت التخلف وعززت الشرور في المجتمعات العربية والفكر العربي المتطلع للانعتاق. الإسلامويون طرقهم إجبارية إما يفهمون ماذا يحدث من هزات على مستوى الوعي أو سيجرفهم التيار المتشكل والقادم.
• ما حال القصيدة؟ •• القصيدة ضاعت في التغريبة التي داخل تغريبة. القصيدة نفسها لا تعرف الجواب أيها الشاعر الكبير. حتى القصيدة نفسها صارت متسلطة وأنا لا أمزح. القصيدة في مستنقع الحرب واللا دولة والميليشيات صرخة في الفراغ. ماذا تنتظر من القصيدة لشخص فجأة فقد ساقه بلغم. الواقع اليمني أكبر من قصيدة. واقع البرابرة والحلم والمغامرة واللا شيء.
• من أساتذتك وهل جنوا عليك؟ •• قال عني الدكتور عبد العزيز المقالح رحمة الله عليه في صحيفة الحياة وأعتز بهذه الشهادة «فتحي أبو النصر بلا آباء ولا أبناء». قل هي اللعنة تتوج الاتجاهات. أحب شعر المتنبي ورامبو وعزرا باوند و درويش والبردوني والبدر بن عبد المحسن والدميني وسعدي يوسف ورياض الصالح الحسين وايتيل عدنان وانسي الحاج وعبد العظيم فنجان..وكل مجاذيب الشعر المعتق كالنبيذ.. لكن أستاذي الذي أكشفه لك هو اللا أستاذ.. هو رمز امتلاك الحياة بالعناد رغم المتاعب.تلك الصعلكة المفتوحة على الأفق. التأمل الذاتي للداخل والتوازن بين المعنى والدلالة.
• بماذا تكفّر عن أخطائك؟ •• بالتوبة عن اللامعنى.. وبالحب ثم الحب. وبالاتساق مع التجريب الثقافي الخلاق. كذلك بعدم خيانة الطبقة العاملة والفلاحية مهما كانت الظروف لأنهم عصب الثقافة اليومية التلقائية المجذرة في مجتمعاتنا العربية. وأيضا باستمرار رفض التفسخ القيمي باسم الثقافة. ولننهض الجميع لنكفر عن أخطائنا.
• على من جنيت أنت؟ •• سؤال أضحكني لكنه لطيف.. سأعترف أنني جنيت على فتحي ومن يحبونه. سؤال مربك رغم بساطته. أنا كائن أعشق الرحمة والعواء معا. حاولنا الاجتهاد الحلمي في 2011 واكتشفنا الخدعة الكبرى.
• لو خُيّرت بين الشعر و وظيفة آمنة ماذا تختار؟ •• الشعر كجرح في الداخل ليس وظيفة بذاته..
وطبعاً الوظيفة الآمنة تمنح ضمانات نفسية مهمة.
يكابد الشاعر التفرقة والعنصرية والتعسف والغباء التسلطي.. أتحدث عن ما عانيناه في اليمن كجيل التسعينيات وبداية الألفية حوربنا في الوظيفة وكنا نعاند ونعارض ونكتب رأينا ونتحاكم أمام القضاء.. لكن كل شيء تغير لم تعد حتى هذه المتاحات البسيطة ممكنة بعد ثقافة المليشيات الناهبة.
• هل الأنثى قصيدة؟ •• الأنثى أكبر من قصيدة.. إنها توق الإنسان إلى الضوء.. الأنثى أحاسيس مفارقة وابستمولوجية أعمق من القصيدة لأنها كيان بشحم ولحم ودم. بل إن القصيدة أنثى.
• ماذا تود أن يكتبوا بعد عمر طويل على شاهدة قبرك؟
•• الله هو الحقيقة الأولى والأخيرة.