Connect with us

ثقافة وفن

أختنا القصيرة جدّا جدّا..

أوّلاً، وسأعلنها بصراحة ووضوح ومنذ البداية ومرّة واحدة: أنا شديد الحذر في التّعامل مع النّصوص السّرديّة القصيرة

أوّلاً، وسأعلنها بصراحة ووضوح ومنذ البداية ومرّة واحدة: أنا شديد الحذر في التّعامل مع النّصوص السّرديّة القصيرة جدّا…أو ما يسمّى بالومضات السّرديّة. أو القاف قاف جيم (قصّة قصيرة جدّا).

ليس فقط، لأنّها قصيرة جدّا جدّا أحيانا، حدّ الإفراط، وليس لكمّ الاستسهال الذي يتعامل به أغلب كتّابها معها، ولكن وعلى العكس من ذلك، لأنّني أتهيّبها وأعتبرها حقيقة، وهذا عن وعي وقناعة، من أكثر أجناس السّرد زئبقيّة وخطورة وأهميّة ومشروعيّة للبقاء.

ولكنهّا أيضا خطرة، فهي تغري من لا باع له، وهي فخّ مخيف لكلّ غافل أو مسقط ممّن يترنّح ويلزق نفسه باللّعاب والألعاب والحيل في هذا الجنس وهذا العالم السّرديّ المليء بالنّتوءات والحفر…

ثمّ أنّ قصّة الومضة، عادة ما تفضح وبسرعة طينة كاتبها ومبدعها. ونادرا، أن تجد من أبدع في هذا الجنس الأدبيّ، دون أن يسقط في تقليد سخيف ومنكر لما سبق به كبار وعمالقة الأدب الياباني والأدب الصّينيّ قبل قرون عديدة.

أمّا النوع الثاني من كتبة هذا الجنس، ولا أقول كتّابه، (أتحدّث دائما عمّن يتطفّل على هذا الجنس) فهم لا يعرفون. ولكّنهم يحاولون وذلك عن عجز ولأنّهم غير قادرين على نحت نصّ سرديّ حقيقي، فتراهم ينتهجون طريقة الإدهاش الغبيّ، دون التمكّن من ذلك.

النصّ السّرديّ الومضة، في أغلبه وجوهره، يستنزف تقنيّة النكتة، أو الطّرفة، بمعني أنّه لا يمكن أن يخلو من سطوة القفلة والجملة الأخيرة بأيّ شكل من الأشكال.. كما أن الأجمل والأبقى منه هوّ الذي يجنح إلى المرح التقني والفني أيّ التلاعب بالقارئ وإدهاشه. والمرح الذي أقصده، هوّ المرح الذي يستنزف شكل بنية الطرفة أو النكتة من خارج خبرها بالأساس.

فنحن نعرف أنّ أيّ نكتة لا معنى لها إذا حذفنا آخرها (القفلة)

وأنّ تركيبتها كلّها تعتمد على هذا الأساس الرئيس.. وصلب الحكاية ليس بمعنى الإدهاش فقط، ولكن بمفهوم الإضاءة الفجائيّة، أي تسليط مركز الضوء كلّه ودفعة واحدة على نقطة جانبيّة موجودة كلّ الوقت، ولكنّها معتّمة، وهنا يكمن بيت القصيد.

ومن المؤكّد أنّ كتابة القصص الومضة حمار قصير سيركبه كلّ عابر؛ تماشيا مع الموضة العامّة، واستدراراً للحبر الخفيف والقارئ اللّطيف، ولكنّه في الحقيقة حمار وحش، لا يروّضه غير محنّك متمكّن أعطاه اللّه بعض سرّ إبداعه في الخلق والتوغّل في التفاصيل بعمق وتكثيف مذهل.

ولأوضّح الأمر كما أراه، فتصوروا معي أنّنا أمام غرفة مؤصدة، وبمجرّد أن نفتح مزلاجها الحديدي وبابها الخشبي، نكون أمام حالات ثلاث هي حالات الأدب والابداع كلّه والسّرد من ضمنه.

فلو حدث وأنّك أشعلت، مثلاً، جذوة النوّر كلّه وسلّطته عما في الغرفة، لبان وبدا لك كلّ شيء على هيئته الصارمة، فإذا الطاولة لا بدّ وأن تظهر على هيئة طاولة والكرسيّ كرسيّ، والنّوافذ نوافذ والحيطان حيطان والسّتائر ستائر والأشياء كما عهدناها، وكما عوّدونا عليها.

وهذا ما أسمّيه الوضوح الكامل في الكتابة الأدبيّة والكتابة السّرديّة؛ وهي الكتابة التي لا تتخفّى وراء غمزة الإشارة ولا غنج العبارة، ولا تتقنّع ولا تتمنعّ، فهي كما هي، بل هي نفسها هي بكلّ ما تعنيه العبارة من معنى متّفق عليه بالإجماع، ومتعارف عليه في تسميّة الأشياء بأسمائها المجرّدة.

ومن هنا أيضاً يمكن تصنيف فنون عدّة غير السّرد، وهي أقرب عندي إلى التّصوير الفوتوغرافي منها إلى الأدب الرّفيع الذي لا بدّ له أن لا يكون وجبة معلبّة جاهزة، بل عليه أن يتجمّل بالقليل من توابل الاستعارة والشّاعرية والشّعر وأملاح الإيحاء وبهارات الإبهار والتّلاعب بخدود الكلمة البكر، وغمّازتي العبارة المُحنّكة.

ولو جرّبت أن تطفئ النور فجأة، وأقبلت على هذه الغرفة السرديّة نفسها، لأشفقت عليها من كلّ ما سيعتريها من عتمة وسواد وقتامة، فإذا هي لطخة واحدة ذات لون واحد، يختلط فيه العجين السردي والمعنى كلّه معاً حتى ليستحيل أن تفرّق بين الطاولة والكرسي والحائط والنوافذ والستائر… كلّها معاً، مجرّد سواد في سواد، في عصبة ليل بهيم غير مُبين. وهذا ما أسميه بالسرد الطلسمي، الذي يجنح ويوغل في الاستعارة وحدها والرّمز المجرّد دون أملاح تخفف ولا توابل تلطّف ولا زيت يُطيّب ويكفف ولا ماء يحلل العناصر، إنّما هي نار موقدة هائجة غير محسوبة المسار وغير مدجّنة، أتت على كلّ شيء، فشاطت الطبخة واسودّت وتفحمت ولم يعد من الممكن لا تذوقها ولا إصلاحها. وهذا ما أسميه في الأدب بالرمزية السوداء الموغلة في التعتيم، ويا ما عانى منها الأدب ويا ما ضاع الفتيل بين الكاتب والقارئ بسببها، وأكثر من يعجبه هذا النمط من الكتابة، إنّما هوّ يضلل نفسه، وهو في الحقيقة غير معجب بما يقرأ وما بين يديه، وإنّما هوّ مفتون بحالته، يراها كالحة، متجهّمة، سوداء، فتبدو له النصوص أو ما بين يديه وقدّامه، كما المرايا التي تعكس جنوحه ورغبته في القطيعة مع اللّون والتعدد والتكاثر والامتداد والتواصل واللّون والمرح والترميز الألمعي. ونجد هذا في كلّ أشكال الفنون، من الرسم التجريدي إلى الشعر النثري الموحش وصولا إلى خربشات الروائيين الغاطسة في الخواطر والاسترداد والغيوم والقطيعة مع الخبر والحكاية الأصل، وأصل كلّ شيء في السرد، فبدون خبر وحكاية، لا سرد ولا هم يحزنون، والأجدر بهؤلاء البحث عن تسميات أخرى، واللغة كريمة ومعطاء ولن تبخل عليهم بأحد الأسماء التي تجمعهم في اتحاد وخليّه أخرى. دون ضرورة التحايل للدخول ببطاقة وهويّة السرد.

والآن، وقد كشفنا الضوء على الغرفة السردية في البداية، فرأينا ما رأينا، ثمّ أطفأنا النور كله، فتداخل الكلّ وتلطّخت جميع المعاني وتكدّست فوق بعض وغاب الخيط والدليل والمدخل وتوارت الدلالة، لم يبقَ أمامنا إلا الحالة الثالثة الممكنة في أشكال التعابير الثقافية عموما، وفي السرد والشعر خصوصا، وأعني، أننا أمام نفس الغرفة، التي أثقلناها ضوءا، وأحرقناها ظلاما، نكرر التجربة بصيغة معتدلة، وهي أننا نحاول أن نطفئ الضوء فعلا، لكننا نوقد شمعة صغيرة، ونسلّط ضوءها الباهت في انتشاره والمتجمّع المركّز في فتيله، نسلّطه على كتلة المكان والمساحة التي هي مملكة الغرفة المغلقة، فإذا بنا نرى عجبا وفتنة:

سنرى طاولة، عائمة في ظلّها وانعكاسها، ويمكن أن تكون طاولة، ويمكن أن لا تكون.. والكرسيّ كرسيّ، ويمكن أن لا يكون كذلك، والنوافذ نوافذ، وقد نراها على غير ما اعتدنا عليه من صرامة أطر النوافذ ومفاتيحها أو مغالقها. والحيطان حيطان، وقد تميع وتتراقص كما لم نعهده أبدا من تجهّم وصلابة الحيطان. والستائر ستائر، ولكنّ قد تطير وقد تلتفّ وقد تسيح وقد تميع وقد تتلبّد فإذا هي والله ستائر، ولكنّها والله ليست بالستائر في آن.

وهذا هو ما نسميه بالأدب الرمزي، والسرد الذي ينبع من بئر الواقع، ويعبّ منها، فهي عناصره وهي نواضده وهي شريطي بلاغته وإبلاغه، وهو السرد الذي يثلج قلب القارئ البسيط الطيّب الذي يتلقفه ويفرد يديه شاكرا وحامدا، كما يتلقّف الفلاح أوّل قطرات الغيث بعد يبس وجفاف، بنفس الاحتفاء الذي يتلقفه به القارئ المثقف الباحث عن السرد المتين الباقي والذي لا تؤثر فيه التوابع ولا الزوابع ولا الزمن الذي سيمرق من فتحاته المتعددة ورمزه الخفيف المطواع كما يمرق النسيم المنثور، فلا يكسر صلبه ولا يؤذيه، بل يثبته غرسا في الأرض الصلبة ويحمل بذوره لتينع في أراضٍ أخرى ولغات بعيدة، ويستقبل في كلّ العهود والحضارات والترجمات بنفس الحفاوة، كونه من نسل نبيل وأصيل ودم نقيّ ومنتشر وواحد في كلّ الأرض، مهما اختلفت اللهجات والأمزجة والثقافات.

* (بديل الخاتمة) *

أَنَا القَاقَاجَائِيّهْ البَهِيَّةُ..أَنَا القَِصَّةُ النّمَوْذَجِيّةُ العَصْرِيّهْ، أنَا الخَفِيفَةُ اللّطِيفَةُ النَّدِيَّهْ..أنَا المُبْتَدَأ بِلاَ خَبَرٍ وَبِلاَ أذِيّهْ..أنَا الوِزْوَازَةُ البَزّازَةُ النّقّازَةُ، بَذرَةُ نُونِ جَنازَةِ الآدَابِ العَربيّهْ… أنَا النِقَاطُ المُتَتَابِعَاتُ الثّلاَثُ، وَعَلاَمَةُ التّعَجُّبِّ المُصْطفّيّهْ.. أنَا نِصْفُ السَّطْرٍ المَعْلُومِ، وأنَا الأصْغَرُ مِنْ قُرَادَةٍ في فخِذَ بَغْل السّرْدِ المَشْدُودِ إلَى مِحْرَاثِ ثقيل، رَاكِبَةً أنَا هَانِئَةٍ رَضِيّهْ، أمْتَصُّ دِمِاءَه فَهْيَ دِمَائِي أيْضًا وَلاَ أحْرَثُ مَعَهُ وَلاَ أعْرَقُ، وَتَعْسًا.. تَعْسًا.. لِبُنُودِ المَوْهِبَةِ وَقَرَفِ القِرَاءَةِ المُضْنِيّةِ وشَرْط التّمَكُّنِ وَالجُهْدِ وَالعَنَاءِ وَالتّعَبِ وَالأذِيّهْ. أنَا المُسْتَقبَلُ. أنَا اللّثغَةُ الهَوَائِيّهْ.. فَهَلْ من نَاشِرٍ قَاقَاجَائِيٍّ جَادٍ، يَنْشُرُنِي حَتّي فِي مِنْدِيلٍ وَرَقِيٍّ، وَبِلاَ مُكَافآتٍ مَالِيّهْ أوْ عِقْدٍ أوْ مُعَامَلاَتٍ وَحِسَابَاتٍ مَادِّيّهْ.. يَا لَيْتَ.. يَا لَيْتَ يَا إخْوَتِي وأحْبَابِي.. يُفْتَحْ بَابِي وَتَتَحَقَّقْ لِي (ذِيسْ)* أُمْنِيّهْ.

_________

– (ذِيسْ)* في الأصل بلغة المستعمرالإنجليزي، وتعني (هذه) This وجمعها ضيييز..These_

Continue Reading

ثقافة وفن

الشاعر علي عكور: مؤسف أن يتصدَّر المشهد الأدبي الأقل قيمة !

الحديث مع الشاعر علي عكور في الكتابة الإبداعية حديث ممتع، وممتدّ، له آراؤه الخاصة التي يتمثلها في كتابته الأدبية،

الحديث مع الشاعر علي عكور في الكتابة الإبداعية حديث ممتع، وممتدّ، له آراؤه الخاصة التي يتمثلها في كتابته الأدبية، يعتد كثيراً بتجربته، ويرى أنّه قادر على الاختلاف؛ لأنّ مفاهيمه للكتابة تتغيّر مع الوقت.

لم يولد -كما قال- وإلى جواره من يمتهن أو يحترف الكتابة، ولم يكن الوسط الذي نشأ فيه يُعنى كثيراً بالأدب أو الثقافة بعمومها، ما يتذكره علي أنّه في أواسط عقده الثاني وقع على نسخةٍ من كتاب (المنجد) للويس معلوف، لا يعلم كيف وصلت إليه هذه النسخة العتيقة من الكتاب، لكنه شُغِف بها وبالعوالم التي تَفَتَّحت أمامه في هذا المعجم.

وجد الشاعر علي عكور نفسه ينجذب كالممسوس إلى الأدب بكل ما فيه من سحر وغموض وجلال، لكنّ الشعر العربي أخذه حتى من ألف ليلة وليلة؛ الذي انجذب إلى الشعر المبثوث في ثنايا الكتاب أكثر من السرد رغم عجائبيته وسحره!

الكثير من رحلة الشاعر علي عكور مع الأدب والكتابة الإبداعية في هذا الحوار:

‏ • حدّثنا عن علاقتك بالشعر والأدب بشكل عام.. كيف بدأت؟

•• بدايةً أودّ القول، أنه لم يكن في محيطي من يمتهن أو يحترف الكتابة، ولم يكن الوسط الذي نشأتُ فيه يُعنى كثيراً بالأدب أو الثقافة بعمومها. أتذكر أنني في أواسط العقد الثاني من عمري وقعتُ على نسخةٍ من كتاب (المنجد) للويس معلوف. لست أعرف كيف وصلت إلينا هذه النسخة العتيقة من الكتاب، لكنني شُغِفتُ بها وبالعوالم التي تَفَتَّحت أمامي بعد الاطلاع على هذا المعجم. وشيئاً فشيئاً، وجدت أنني أنجذب كالممسوس إلى هذا العالم الرحب، بكل ما فيه من سحر وغموض وجلال. وأثناء تجوالي في عوالم الأدب أُخِذْتُ بالشعرِ العربي وبإيقاعيّة الجملة الشعرية فيه. حتى عندما وقع بين يديّ كتاب (ألف ليلة وليلة)، لم أنجذب إلى السرد رغم عجائبيته وسحره، بقدر ما انجذبتُ إلى الشعر المبثوث في ثنايا الكتاب. وأتذكر أنني كنت أتجاوز الصفحات وأقلّبها بحثاً عن بيتٍ أو بيتينِ من الشعر.

• لمن تدين بالفضل في الكتابة؟

•• أودّ أن أدين بالفضل إلى أحدٍ ما، لكنني حين أمَرّر بداياتي على الذاكرة، لا أتذكّر أحداً بذاته، آمن بي أو رأى في ما أقوم به بدايات واعدة لمشروع ما. كل ما هنالك أنني كنتُ أتلقى ثناءً عابراً إذا كتبتُ شيئاً جيداً. على أنني لا أقلّل من هذا الثناء، فقد كان ذا أثرٍ كبير في دافعيتي، وديمومة شغفي بالكتابة. هذا فيما يخص البدايات، أما الآن فأنا أدين بالفضل لأسرتي ولزوجتي خاصة، فهي داعم كبير لي على طول هذا الطريق، وتتحمل عن طيب خاطر الأعباء التي يُخلّفها انشغالي بالكتابة وهمومها.

• شاعر كان تأثيره كبيراً عليك.

•• لا يمكن تتبّع الأثر بسهولة في هذا الشأن؛ لأنه غالباً يكونُ قارّاً في اللاوعي. لكن إذا كان السياب يرى أنه تأثر بأبي تمام والشاعرة الإنجليزية إديث سيتول وأنه مزيج منهما، فأنا أرى أنني تأثرت كثيراً بسعدي يوسف ومحمود درويش، وأشعر أنهما يلتقيان بطريقة ما، في الكثرة الكاثرة مما أكتب.

• كيف للشاعر أن يكتب قصيدته وفق رهان المستقبل وليس للحظة التي يعيش فيها؟

•• في الغالب لا توجد كتابة لا يمكن تجاوزها. وما يُعبّر عنك الآن قد تجد أنه لا يُعبّر عنك غداً. أعتقد أن الرهان الحقيقي هو أن نكتب شيئاً يستطيع أن يصمد أمام عجلة الزمن. ربما إحدى الحيل التي يمكن أن نمارسها هي أن نكتب نصوصاً أكثر تجريداً وانعتاقاً من قيود الزمان والمكان، وأن نتخفّف من الكتابة تحت تأثير اللحظة الراهنة والحدث المُعاش.

• الملاحظ أنّ هناك إصدارات متشابهة في الشعر والقصة لشعراء وكتاب قصّة، وإن تعددت عناوينها، لكنّ التجربة لم تختلف.. ما تأثير هذا على الإبداع والقارئ كذلك؟

•• صحيح، هذا أمر ملاحظ. هناك من يصدر عشرة دواوين، وعند قراءتها لا تجد اختلافاً بينها، لا من حيث الثيمات ولا من حيث طريقة التناول، لتفاجأ أن هذه الدواوين العشرة هي في الحقيقة ديوان واحد طويل. الكاتب أو الشاعر الذي لا يتجدد يخاطر بمقروئيته ويخسر رهانه الشخصي. إما أن تقول شيئاً جديداً أو شيئاً مألوفاً بطريقة جديدة، لكن لا تقل الشيء نفسه بالطريقة نفسها، حتى لا تعطي فكرة أنك لا تأخذ مشروعك بما يستحق من جدية واهتمام.

• تنادي بأهمية تصدّر الأدب الجاد والأصيل المنصات.. أولاً: من يحدد ماهية الأدب الجاد؟ ثانياً: هل المرحلة تساعد في أن يتصدّر الأدب أيّاً كان المنصات التي كثرت وكثر مستخدموها والمؤثرون فيها؟

•• النقّاد والقرّاء النوعيّون، هم من يحددون ماهيّة الأدب الجاد ويُعلون من قيمته. مؤسف أن يتصدر المشهد الأدبي الأقل قيمة، بينما يبقى الأدب الأصيل في الهامش. في الأخير نحن مسؤولون عن تصدير ثقافتنا، وما نتداوله ونجعل له الصدارة في منصاتنا ومشهدنا، هو ما سيُعبّر عنّا وسيكون عنواننا في النهاية. وبالتالي لنا أن نتساءل بصدق: هل ما صُدِّرَ ويُصَدّر الآن، يُعبّر عن حقيقة وواقع الأدب والثقافة في بلادنا؟

• لديك مشكلة مع المألوف والسائد، وتطالب بسيادة الأدب الفريد والمختلف.. هل لدينا اليوم ذائقة خاصة يمكنها إشباع الذائقة العامة؟

•• يمكن الاتفاق في البدء أن تغيير شروط الكتابة هو في المقابل تغيير لشروط التلقي، وأن كل كتابة أصيلة ومختلفة ستصنع قارئاً مختلفاً. كل كتابة جادّة ستصنع قارئها، وهذا هو الرهان الحقيقي. أما المألوف والسائد فإنّ القارئ مصابٌ بتخمة منه. كل كتابة في المألوف والسائد هي ابنٌ بارٌّ للذاكرة لا للمخيّلة؛ الذاكرة بوصفها مستودعاً لكل ما قرَّ واستقرّ فيها وأخذ مكانه المكين. والمخيّلة بوصفها انفتاحاً على المتجدّد واللانهائي.

• ماذا يعني لك فوزك بالمركز الأول في مسابقة التأليف المسرحي في مسار الشعر؟ وماذا تعني لك كتابة الشعر المسرحي؟

•• سعدت كثيراً بالفوز، سيما أن المسرحية تتحدث عن شخصية أحبها كثيراً: شخصية ابن عربي؛ تلك الشخصية التي عشت معها طيلة ثلاثة أشهر (وهي مدة كتابة العمل)، تجربة روحية وروحانية بالغة الرهافة، فقد استدعت الكتابة عن ابن عربي، العودة إلى قراءة سيرته وأجزاء من أعماله التي حملت جوهر فكره وعمق تجربته الصوفية. وبالانتقال إلى الجزء الثاني من السؤال، أقول إن كتابة الشعر المسرحي عمّقت من مفهومي للشعر وإيماني به وبقدرته على التحرك في مناطق جديدة، يمكن استثمارها على نحو جيد ومثرٍ، إذا ما تعاملنا معها بجدية.

• أما زلت تبحث عن دار نشر تطبع لك ديوانك الجديد دون مقابل مادي تدفعه؟

•• استطعت التواصل مع أكثر من دار، وقد رحبوا بالديوان والتعاون من أجله. لا ضير في كون دور النشر تبحث عن الربح، فهذا من حقها، وهذه هي طبيعة عملها. كل ما أنادي به أن تكون هناك جهة حكومية تشرف عليها وزارة الثقافة، تقوم بطبع الأعمال الجادة التي تعبّر عن حقيقة الأدب السعودي وواقعه.

• جاسم الصحيح قال عنك إنك لست شاعراً عابراً، وإنما شاعر ذو موهبة كبرى تتجاوز المألوف والسائد.. ماذا تعني لك هذه الشهادة؟•• جاسم اسم كبير في المشهد الثقافي وتجربة مرجعية في الشعرية العربية الحديثة، وأن تأتي الشهادة من قامة كقامة جاسم الصحيح لا شك أنها شهادة تدعو للابتهاج والنشوة، إضافة إلى ما تلقيه عليّ من عبء ومسؤولية كبيرة.

• كيف يكون المؤلف الجاد والرصين رأس مال لدور النشر؟

•• تمهيداً للإجابة عن السؤال، لا بد من القول إن الرساميل الرمزية أحياناً تكون أهم وأكثر مردوداً من القيمة المادية. بالنسبة لدور النشر، يُعد الكاتب الجاد رأس مال رمزياً مهمّاً؛ لأنه يبني لها سمعة في الوسط الثقافي. إذا أرادت دور النشر أن تستثمر في سمعتها، فإن أسرع طريقة هي استقطاب كتاب أصحاب مشاريع جادة، مقابل أن تطبع لهم بمبالغ رمزية على الأقل.

• كتبتَ الشعر بأشكاله الثلاثة ومع ذلك ما زلت ترى أنّ الوزن ليس شيئاً جوهرياً في القصيدة.. ما البديل من وجهة نظرك؟

•• نعم الوزن ليس شيئاً جوهريّاً في الشعر. ونحن حين نقول الوزن نقصد بطبيعة الحال الأوزان التي أقرها الخليل بن أحمد. الحقيقة أن الأوزان جزء من الإيقاع، أو بمعنى آخر، هي إحدى إمكانات الإيقاع وليس الإمكانية الوحيدة، وما دامت إحدى تجليات الإيقاع وليس التجلي الوحيد، فمعنى ذلك أن الإيقاع أعم وأشمل وأقدم. وعليه فإن الإيقاع هو الجوهري وليس الوزن. والإيقاع يمكن أن يتحقق في قصيدة النثر مثلاً، عبر حركة الأصوات داخل الجملة الشعرية. وهناك حادثة دالة وكاشفة أنهم حتى في القديم كانوا يدركون أن الشعر بما فيه من إيقاع يوجد أيضاً خارج أوزان الخليل، إذ يُروى أن عبدالرحمن بن حسان بن ثابت دخل على أبيه وهو يبكي، وكان حينها طفلاً، فقال له: ما يبكيك؟ فقال: لسعني طائر، فقال: صفه، فقال: كأنه ملتف في بردي حبرة. فصاح حسان: قال ابني الشعر ورب الكعبة. هذه القصة المروية في كتب الأدب تكشف بجلاء أن الشعر أوسع من مجرد الوزن والتفاعيل.

• أنت تقول: لا شيء يسعدني ككتابة الشعر الجيّد.. ما مواصفات الشعر الجيّد؟

•• لا أملك ولا يحق لي ربما الحديث عن الشعر الجيد بإطلاق؛ لأن في هذا ادعاءً كبيراً، لكن يمكن الحديث عما أراه أنا أنه شعر جيد؛ أي في حدود رؤيتي فقط. كل شاعر يكتب الشعر بناءً على ما يعتقد أنه شعر، وعليه فإن الشعر الجيد -كما أراه- خرق لنمطية اللغة وبحث جاد عن اللامرئي في المرئي، ومن مواصفات النص الجيد أن يتقاطع فيه الفكري بالوجداني، وأن يكون نتاج الحالة البرزخية بين الوعي واللاوعي. طبعاً إضافة إلى ضرورة أن يتخلص من المقولات السابقة، وأن يعمل في تضاد مع الذاكرة والثقافة؛ لأنهما يفرضان السائد والمألوف وكل ما هو قارّ في الذهن.

• العودة الملاحظة للشذرات كتابة وطباعة.. إلام تعيدها؟

•• الشذرة في رأيي هي رأس الشعرية. حَشْد كل هذا العالم بمستوياته وتناقضاته ورؤاه في بضع كلمات أمر بالغ الصعوبة على مستوى التكنيك، لكنه مثير وممتع حين تدخله كمساحة للتجريب وتحدي إمكانياتك. أيضاً جزء من اهتمامي بالشذرة يعود إلى افتتاني بالمشهدية وتأمل الفضاءات البصرية واستنطاقها. إضافةً إلى ما في الشذرة من تداخل أجناسي يزيدها ثراءً وغنى. وعلى مستوى آخر أعتقد أن الشذرة بحجمها وبنيتها أكثر تمثيلاً لحياتنا المعاصرة التي أشبه ما تكون بلقطات متتابعة ومنفصلة في فضاء بصري، يجمعها سياق عام. وأخيراً لا أنسى أن منصة (إكس) بما كانت تفرضه من قيود تقنية قد أسست لتجربتي في الكتابة الشذرية وصقلتها.

• الشاعر أحمد السيد عطيف اختلف معك في شكل القصيدة، ورأى أنّ الشكل لا يجعل الكلام جميلاً ومؤثراً.. فيما ترى أنت أنّ الكتابة على نمط القصيدة القديمة تقليد وليس إبداعاً.. هل المشكلة في الشّكل أم في أشياء أخرى؟

•• نعم، كان الحديث في هذه الجزئية عن القصيدة العمودية، وعن كتابتها بصياغة تقليدية مغرقة في القدامة. النقد الحديث على عكس القديم، لا يفصل بين الشكل والمضمون، ولكتابة نص حديث لا بد من تحديث الشكل؛ لأننا لا يمكن أن نتحدث عن مضمون ما بمعزل عن الشكل، إذ إن الشكل يخلق مضمونه أيضاً. طبعاً لا أقصد بتحديث الشكل استبدال القصيدة العمودية بشكل آخر، بل أقصد التحديث من داخل الشكل نفسه. تجديد الصياغة وتحديث الجملة الشعرية ذاتها لتكون قادرة على التعبير عن الرؤى الجديدة.

• لماذا ترى أنّ كتابة قصيدة النثر أصعب من كتابة قصيدة عمودية أو تفعيلة؟

•• السبب في رأيي أن النص العمودي والنص التفعيلي لديهما قوالب إيقاعية جاهزة تجعل من مهمة الخلق الشعري مهمة أقل صعوبة. بينما في قصيدة النثر أنت تعمل في منطقة أقرب ما تكون إلى الشكل الهلامي. قصيدة النثر ملامحها أقل حدة ووضوحاً من الشكلين السابقين، وعليه فإن كتابتها تحمل صعوبة أكبر؛ لأن لكل نصٍّ قالبه الخاص الذي عليك أن تخلقه من العدم.

• كيف يمكن للشاعر أن يكون رائعاً؟

•• يكون كذلك إذا كان أصيلاً؛ أي معبراً عن صوته الخاص، ولحظته الراهنة، ومنغمساً بالكامل في تفاصيل عالمه، طبعاً دون أن يفقد قدرته على الاتصال بالوجود والكون.

• النصوص القصيرة التفعيلية التي كتبتها وترغب في نشرها مرفقة برسوم إبداعية.. ماذا عنها؟

•• هي أربعون نصّاً، تحمل خلاصة تجربتي في كتابة الشذرة الشعرية، وهو تنويعٌ على تجربتي الشعرية عموماً. تعاونت في هذا المشروع مع الرسامة السورية القديرة راما الدقاق. والعمل الآن في مرحلته الأخيرة، وسيُنشر خلال الشهرين القادمين.

Continue Reading

ثقافة وفن

رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «بـراغ»

أصدر رئيس مركز الجواهري الثقافي، رواء الجصاني، كتاباً توثيقياً عن (شخصيات وشؤون ثقافية عراقية في ذاكرة وتاريخ

أصدر رئيس مركز الجواهري الثقافي، رواء الجصاني، كتاباً توثيقياً عن (شخصيات وشؤون ثقافية عراقية في ذاكرة وتاريخ براغ) طيلة 65 عاماً، وتضمن التوثيق 22 عنواناً فرعياً.

وسلّط المصدر الببلوغرافي الضوء على إقامة خال الجصاني الشاعر العربي محمد مهدي الجواهري، في التشيك قرابة 30 عاماً (1961-1991)؛ منها سبعة متصلة (1961-1968)، و كتب الجواهري خلال إقامته في (براغ) نحو 30 قصيدة ومقطوعة؛ عشر منها، وفيها، عن التشيك وجمال وعطاء بلدهم الذي أطال من عمر الجواهري كما يثبت ذلك في قصيدته:

أطلتِ الشوطَ من عمري، اطالَ الله من عمركْ

ولا بلّغتُ بالشرّ، ولا بالسوءِ من خبـركْ..

ألا يا مزهرَ الخلدِ تغنى الدهرُ في وتركْ.

واحتفظ المثقفون التشيك، باعتزاز بذكرى إقامة الجواهري معهم، وهم يدركون تميّزه الشعري، إضافة لكونه رمزاً عراقياً وعربياً، وإنسانياً، وجسراً وطيداً بين ثقافتي البلدين، وتم وضع نصب (معلم) تذكاري له جوار شقته التي عاش فيها أزيد من ربع قرن بمنطقة براغ السادسة.

كما تناول الكتاب، الفنان والمفكر الرائد محمود صبري، ذو العطاءات التشكيلية وصاحب نظرية (واقعية الكم) الذي أقام في براغ فناناً ومفكراً وطنياً، وباحثاً إنسانياً نصف قرن (1963-2013).. وكذلك الباحث والكاتب والمترجم القدير مصطفى عبود الذي أقام بها من أواخر السبعينيات إلى 1985. والكاتب والصحفي شمران الياسري (أبو كاطع) منذ النصف الثاني من السبعينيات إلى عام 1981.. والكاتب والروائي يحيى بابان – جيان، من منتصف الستينيات إلى عام 2023. والفنان الكردي العراقي البارز قادر ديلان؛ الذي أقام وعمل في براغ لنحو عقدين إلى وفاته عام 1999. والباحث الجدير فالح عبد الجبار من عام 1979 إلى 1981.. وبشرى برتو، وذنون أيوب، وفاروق رضاعة، وفيصل السامر، ونوري عبد الرزاق، ومجيد الونداوي، ومهدي الحافظ..

واستعاد الجصاني مسيرة إذاعة براغ العربية، ومن أسهموا فيها، ومنهم: أحمد كريم، وأناهيد بوغوصيان، وحسين العامل، وزاهد محمد، وصادق الصايغ، وعادل مصري، وفائزة حلمي، ومفيد الجزائري، وموسى أسـد، ونضال وصفي طاهر.

كما تناول الجصاني المجلات الثقافية التي صدرت، وكذلك المتخصصة في شؤون سياسية واقتصادية، والسفراء، والدبلوماسيين، وأمسيات شعرية، وندوات أدبية وفكرية، ومعارض فنيّة، وحفلات موسيقية، ومؤلفات وتراجم، وأفلام ومخرجين، ومترجمين ومحررين، وكتب ومكتبات، ومحطات إعلامية، ومركز الجواهري، الذي أطلقه رواء الجصاني والدكتور محمد حسين الأعرجي، والمستعرب التشيكي (يارومير هايسكي)، وبدأ نشاطاته في منتصف عام 2002: و(بابيلون للإعلام والنشر)، كما تناول الكتاب باحثين وأكاديميين وعلماء.

Continue Reading

ثقافة وفن

«آثارنا حضارة تدلّ علينا»

كادت الآثار التاريخية الأبرز في بلادنا تندثر، في ظل ثقافة تعمدت تغييب الوعي بأهمية التراث والأثر في حياة الشعوب،

كادت الآثار التاريخية الأبرز في بلادنا تندثر، في ظل ثقافة تعمدت تغييب الوعي بأهمية التراث والأثر في حياة الشعوب، ودورها في التنمية الاقتصادية، والتقدير الإنساني، وأبرمت هيئة التراث، مؤخراً، اتفاقية مع الهيئة الوطنية للتراث الثقافي في الصين، للتنقيب عن الآثار بموقع السرين الأثري بمحافظة الليث بمنطقة مكة المكرمة، وتستهدف الاتفاقية التوسع في أعمال التنقيب الأثري الميداني بالمملكة، وتعزيز الشراكات العلمية مع الجامعات والمراكز الدولية المتخصصة في التراث. وتواصل هيئة التراث جهودها لاستكشاف الفرص الممكنة لتحقيق عوائد ثقافية، واقتصادية، واجتماعية من التراث الوطني بما يتماشى مع مستهدفات رؤية السعودية 2030. وسبق أن كشفت (هيئة التراث السعودية) عن اكتشاف أكثر من 1556 موقعاً أثرياً و1900 منشأة حجرية و7600 واجهة صخرية تحتوي على رسوم ونقوش تاريخية في مختلف أرجاء البلاد عقب 72 مشروعاً بحثياً بالشراكة مع عدد من الجامعات والمراكز العلمية المتخصصة في مجال المسح والتنقيب الأثري.

وهنا نطرح محور قضيتنا الأسبوعية حول التراث والآثار؛ من خلال رؤية ثقافية وعلميّة، وإبداعية، مستأنسين برأي عدد من الباحثين المتخصصين، فيرى الأكاديمي الدكتور إبراهيم أبو هادي النعمي أنه حين نتجه إلى الاهتمام بالماضي؛ باعتباره مكتسباً، فإننا نعي تماما أنها «عودة» إلى الخلف في الإطار الإيجابي، إذ تعني تجذير المعرفة واصطحاب تطورها وتشكلاتها في الحقب الزمنية؛ وفق تاريخيّة الزمكان وتأثيره على المنتج الثقافي واستثمارها في الحاضر بكل حمولاته الثقافية والاجتماعية والسياسية. وعدّ ما الدولة بصدد رعايته موروثاً يجمع بين الابستمولوجيا والانطولوجيا وتجلياتهما في الآداب والفنون والطقوس الاجتماعية والتعبير عن الهويّة الثقافية المستمرة والمتغيرة والمتطورة، مؤكداً أهمية دراسة الوجود والكيانات المتعلقة بالآثار والتراث وكيفية تفسيرها في سياق الهوية والتاريخية، فالهوية تسهم في تعزيز شعور الانتماء والاعتزاز بالثقافة المحلية والقيم والتقاليد التي تشكلت عبر العصور؛ ويكون ذلك من خلال الحفاظ على التراث والآثار لضمان رفد الهوية للأجيال القادمة. وأوضح أبو هادي أننا اليوم في المملكة، وعبر برامج الرؤية الملهمة، نرى أن الاهتمام بالتراث المعرفي والمادي؛ باعتباره ذاكرة الأمة وهويتها، يحقق للمواطن السعودي تحسين جودة الحياة والتقدم نحو المستقبل بوعي وثقة المنافس، معتمداً على تاريخ عريض من الحضارات المتتابعة والثقافات المتنوعة التي تتماشى مع توجهات الدولة الحديثة وتعاطيها مع ثقافات العالم؛ كونها لاعباً رئيساً في مجالات الاقتصاد والسياسة والحضور الاجتماعي والثقافي، كل هذا يقودنا نحو بناء مستقبل مستدام مستنداً إلى الماضي، متماهياً مع الحاضر، متطلعاً للمستقبل. ولفت أبو هادي إلى أن الحفاظ على الموروث؛ سواء أكان مادياً أو معرفياً؛ واجب تجاه المجتمعات المحلية والإنسانية، ما يلزمنا بنقله بكل أمانة واحترافية واهتمام تدويناً وتوثيقاً وصيانةً وتمكيناً للبعثات المتخصصة في استكناه أسراره وإتاحة المادي منه للدرس والتنقيب والمعرفي للتدوين والتداول وإعادة انتاج كل ذلك من خلال الفنون بكل أطيافها، مضيفاً بأن المملكة من أغنى دول العالم تراثاً وموروثاً ثقافياً، ويحمل ترابها آثاراً وتاريخاً يعكس حضارات قديمة كان الحفاظ عليه واجباً وطنياً يستوجب تضافر الجهود للعناية به وتحمل مسؤوليته. وقال أبو هادي: «إن فلسفة الحفاظ على التراث تدور حول استدامته والاحتفاظ بتلك الذاكرة الجماعية التي تستعيد تجارب وتحديات المجتمعات السابقة؛ التي هي في حقيقتها جزء من وجودنا، كما أن فهمنا العميق لهذا التراث يساعدنا على تقدير تنوع الثقافات ويعزز الحوار بين الأجيال».

فيما يرى الباحث في العلوم الإنسانية عبدالهادي صالح الشهري أن كل ما هو قابل للاندثار سيندثر ما لم يتم تداركه؛ سواء أكان ذلك في التراث المادي أم غير المادي، مشيراً إلى أنه لا يمكن التعرف على تاريخ البشرية إلا من خلال ما خلفوه من آثار ملموسة أو غير ملموسة؛ واعتبارها هوية تاريخيّة تعكس قيمة الإنسان وحضوره وأمجاده على هذه الأرض.

وأوضح أن في محافظة النماص -على سبيل المثال- الكثير من التراث المادي الذي حاول فيه الأسلاف رفع الهوية الجبلية بكامل تفاصيلها التاريخية والثقافية على حد سواء، كما هو أيضاً على مستوى التراث غير المادي، إذ لا تزال العادات والتقاليد متوارثة إلى يومنا هذا، وتكشف طريقة تعايش الإنسان مع الطبيعة الجبلية التي تشير إليهم وتميزهم عن غيرهم، ولا يمكن للزائر لمحافظة النماص إلا أن يستشعر هيبة الجبال والأودية والشعاب ويشتم رائحة التاريخ وهي تخرج من بين حصونها وقلاعها الكثيرة ويبتهج من ضيافة أهلها الكرام. وأكد الشهري أننا ونحن نتجه جميعاً وفق رؤية السعودية 2030 للحفاظ على هذا الإرث الكبير؛ الذي تمتلكه المملكة في جهاتها الأربع ورفع الوعي بأهمية الحفاظ عليه وعرضه أمام السائح الذي ستدهشه ولا ريب القيمة التاريخية لهذه الأرض والممتدة منذ آلاف الأعوام إلى يومنا هذا، ما يحتّم على الجميع السعي الحثيث نحو المحافظة على كل ما يخلد تاريخ هذه الأرض وتقديم الهوية والحضارة العربية العظيمة للآخر المتشوق لمعرفة تاريخنا وفروعه المتعددة بكل اعتزاز وفخر وجلال.

الذييب: إشراك المواطن في حفظ الآثار ضرورة

فيما ذهب مستشار مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية الدكتور سليمان بن عبدالرحمن الذييب، إلى أن الآثار شاهد على إنجازات أي مجتمع، ولا أبالغ إن قلتُ إن الآثار هي حامل الصبغة الوراثية التي توثق نسب المجتمع بما خلفه من إنجازات، وعلامة الهوية الوطنية، لافتاً إلى أهمية أن يولي المجتمع ليس فقط الاهتمام والرعاية اللازمتين، بل المحافظة على الآثار وجعلها أحد أسس الانطلاق إلى الأمام، موضحاً أن قيادتنا الرشيدة تبنّت -شأن مجتمعات متقدمة- المحافظة على الآثار والاستفادة منها في خططها المستقبلية الواعدة عن طريق استلهامها في قضاياها والاستفادة منها اقتصادياً واجتماعياً ووطنياً، في ظل ما تبذله الجهات المعنية في هذا الجانب ما يخلق تفاؤلاً طيباً في حاضر الوطن ومستقبله.

وأكد الذييب أن دولتنا اعتمدت خططاً للمحافظة على هذا الإرث العظيم والعمل على توظيفه سياحياً وثقافياً واقتصادياً في إطار الاستراتيجية الوطنية للثقافة ورؤية 2030م، مشيراً إلى أنه إذ أخذنا جانب المحافظة على هذه الآثار فإن أبرز ما يجب تبنيه والسعي لتنفيذه هو توثيق هذه المواقع الأثرية والتراثية، وتسجيل المهم منها لدى منظمة اليونسكو باعتباره تراثاً عالمياً، مع ترميم هذه المواقع وتهيئتها بشكل صحيح، إضافة إلى تفعيل البحث العلمي في المؤسسات العلمية المعنية في هذا الأمر، مضيفاً بأن للجانب الاقتصادي دوراً متى ما تم العمل على التهيئة الجيدة للمواقع، وتسهيل الوصول إليها وتحقيق العوامل المساعدة على زيارتها، كي يتمكن الزائر من استنطاق التاريخ من خلالها. وعدّ من الأهمية مراعاة أن تكون هذه المواقع صديقة للبيئة بإمداد هذه المواقع التراثية والأثرية بأحدث وسائل التنمية المستدامة، وحظر استخدام وسائل من شأنها الإضرار بالبيئة. والاستعاضة عنها بالوسائل الحديثة لجذب الزائر، المتمثلة في الذكاء الاصطناعي في مجال الآثار والتقنية الحديثة التي تؤدي دوراً واضحاً في الترويج وتعزيز الاهتمام بها من خلال تقنية المحتوى الرقمي وتطبيقاته المختلفة، وتطوير قدرات الكوادر البشرية الوطنية عن طريق الابتعاث والدورات والمشاركات، مع جهات عالمية ذات خبرة طويلة في هذا الجانب، ومنح هذه الكوادر ثقة تولي مهمات التعامل مع آثار هذا الوطن العريق وتراثه.

ويرى الذييب أن كل هذه الخطط والآمال لا يمكن أن تحقق هدفها المنشود دون إيمان المواطن بهذه الأهمية، فدوره هو الأساس في الحفاظ على الآثار. ودعا الذييب إلى إشراك الجهات ذات العلاقة (المواطن) في الاستفادة الاقتصادية، وتخطيط مستقبل مدينته، وقال: «دون ذلك فمهما صُرفَ وبذل فلن نلمس نتائجه التي نتوخاها».

Continue Reading

Trending

جميع الحقوق محفوظة لدى أخبار السعودية © 2022 .