في خطوة تاريخية تعكس التزام المملكة العربية السعودية بتعزيز قطاعها الزراعي وتحقيق مستهدفات الأمن الغذائي، شهدت واحة الأحساء الخضراء تدشين أول جمعية تعاونية متخصصة لدعم المزارعين وتسويق منتجاتهم. هذه المبادرة الرائدة، التي جاءت تحت مسمى “جمعية الرؤية التعاونية للتسويق الزراعي”، تمثل نقلة نوعية في دعم المجتمعات الريفية وتمكين المزارعين من الوصول المباشر إلى المستهلكين، متجاوزة بذلك التحديات التقليدية التي يفرضها دور الوسطاء.

وقد دشن المهندس فهد الحمزي، مدير عام فرع وزارة البيئة والمياه والزراعة بالمنطقة الشرقية، باكورة فروع هذه الجمعية بمحافظة الأحساء. ويأتي هذا التدشين كجزء من استراتيجية وطنية أوسع تهدف إلى إلغاء دور الوسطاء، وربط المزارعين بالمستهلكين مباشرة، وتعزيز منظومة الأمن الغذائي عبر آليات تسويقية ولوجستية متطورة تواكب مستهدفات رؤية المملكة 2030 الطموحة. هذه الرؤية التي تركز على تنويع مصادر الدخل، وتنمية القطاعات غير النفطية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في العديد من المنتجات الأساسية.

الأحساء: عمق تاريخي وزراعي

تتمتع الأحساء، المدرجة ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي، بعمق تاريخي وزراعي فريد يجعلها بيئة مثالية لمثل هذه المبادرات. لطالما عُرفت الأحساء كواحة خضراء غناء، تشتهر بزراعة النخيل وإنتاج أجود أنواع التمور، بالإضافة إلى زراعة الأرز الحساوي والخضروات والفواكه المتنوعة. يمتد تاريخ الزراعة في هذه المنطقة لآلاف السنين، حيث شكلت الزراعة العمود الفقري لاقتصادها ومصدر رزق سكانها. إن إطلاق جمعية تعاونية هنا لا يمثل مجرد دعم اقتصادي، بل هو أيضاً تقدير وحفاظ على هذا الإرث الزراعي العريق، وتحديث لآلياته ليواكب متطلبات العصر الحديث.

رؤية 2030 والأمن الغذائي

تعتبر هذه الجمعية ترجمة عملية لاستراتيجيات الدولة الرامية لتمكين المجتمعات الريفية ورفع كفاءة الإنتاج الزراعي، وهو ما أكده المهندس الحمزي. فالجمعيات التعاونية تُعد ذراعاً تنفيذياً حيوياً لتحقيق التنمية المستدامة وتقليل الاعتماد على الاستيراد، بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030 التي تولي أهمية قصوى للأمن الغذائي. تسعى الرؤية إلى بناء نظام غذائي مستدام ومرن قادر على تلبية احتياجات السكان، من خلال دعم الإنتاج المحلي، وتطوير التقنيات الزراعية، واستغلال الموارد المائية بكفاءة.

وشدد المهندس الحمزي على أن القطاع الزراعي بات ركيزة اقتصادية رئيسية تحظى بدعم حكومي سخي يركز على الابتكار والتقنيات الحديثة، لافتاً إلى استمرار الوزارة في تقديم التمكين الفني والمؤسسي لتوسيع دائرة أثر هذه الجمعيات في الحفاظ على الموارد الطبيعية. هذا الدعم يشمل توفير الإرشاد الزراعي، والتدريب على أفضل الممارسات، وتسهيل الحصول على التمويل اللازم لتطوير المزارع.

تسهيلات تسويقية وشراكات استراتيجية

كشف الحمزي عن حزمة تسهيلات تقدمها الوزارة لتطوير آليات التسويق محلياً ودولياً، تشمل عقد شراكات فنية مع مجلس الجمعيات التعاونية لضمان تحسين الأداء الفني والتسويقي، ودراسة الأسواق المستهدفة لتعميم الفائدة على المنتجين. هذه الشراكات تهدف إلى بناء قدرات الجمعيات التعاونية، وتزويدها بالخبرات اللازمة لتسويق منتجاتها بفعالية، سواء داخل المملكة أو في الأسواق العالمية المحتملة.

من جانبه، أوضح الدكتور عطيه الثقفي، مدير مكتب الوزارة بالأحساء، أن الجمعية الجديدة ستحدث نقلة نوعية في المحافظة عبر دعم الأسر المنتجة والمزارعين، وتمكينهم من بيع محاصيلهم للمستهلك النهائي مباشرة دون تكبّد عناء التعامل مع الوسطاء والسماسرة. هذا النموذج يضمن حصول المزارع على عائد أفضل لجهده، ويقدم للمستهلك منتجات طازجة بجودة أعلى وأسعار تنافسية.

خطة تشغيلية متكاملة

واستعرض الدكتور عبدالعزيز العنزي، رئيس مجلس إدارة الجمعية، الخطة التشغيلية الطموحة التي تتضمن إنشاء منصة إلكترونية موحدة لتسويق المنتجات، ومراكز خدمات لوجستية متكاملة تشمل النقل والتعبئة والتغليف والتخزين لضمان جودة المعروض. هذه البنية التحتية المتطورة ستسهم في تقليل الفاقد من المحاصيل، وتحسين سلاسل الإمداد، وتقديم المنتجات للمستهلكين بأفضل صورة ممكنة.

وأشار العنزي إلى سعي الجمعية لبناء تحالفات استراتيجية مع القطاع الخاص لتنفيذ الشراء الموحد لمدخلات الإنتاج الزراعي والسمكي، وتأسيس معامل وخطوط إنتاج متخصصة لخدمة كافة الأنشطة الزراعية في المنطقة. هذه التحالفات ستعزز من كفاءة الإنتاج، وتخفض التكاليف على المزارعين، وتفتح آفاقاً جديدة لتصنيع المنتجات الزراعية، مما يضيف قيمة مضافة للمحاصيل المحلية.

تأثيرات متوقعة: محلياً ووطنياً

من المتوقع أن يكون لتدشين جمعية “الرؤية التعاونية” تأثيرات إيجابية واسعة النطاق. محلياً، ستسهم في تحسين مستوى معيشة المزارعين والأسر المنتجة في الأحساء، وتوفير فرص عمل جديدة، وتعزيز الاقتصاد المحلي. وطنياً، ستدعم هذه المبادرة جهود المملكة لتحقيق الاكتفاء الذاتي في المنتجات الزراعية، وتقليل الاعتماد على الاستيراد، مما يعزز الأمن الغذائي الوطني ويقلل من تقلبات الأسعار العالمية. كما يمكن أن تكون هذه الجمعية نموذجاً يحتذى به في مناطق أخرى من المملكة، مما يسهم في تنمية زراعية شاملة ومستدامة.