في حوار دار بيننا، أجدني على اتفاق تام مع الكاتب والسيناريست الأستاذ ياسر مدخلي عضو لجنة التحكيم لجائزة ديوانية القلم الذهبي في وصفه لها بأنها أكثر من جائزة، وإنما مؤسسة تنويرية عالمية.
فجائزة (القلم الذهبي) كما قال يتعدى أثرها الاهتمام بالأدب العربي والأدباء لمجالات وأسماء عديدة.
وبالفعل من يتأمل للحظة في أمر هذه الجائزة، سيكتشف بداهة أن خريطة تأثيراتها تلامس فضاءات إبداعية عديدة ومتنوعة، فعندما نتحدث عن جائزة الرواية، وعن عدد واسع من الروايات على مستوى العالم العربي والروايات المترجمة إلى العربية، وهو احتفاء باللغة العربية والأدب العربي، فإننا ننتقل مباشرة للحديث عن إثراء صناعة السينما، ما يقودنا إلى الحديث عن عدد كبير من المهن داخل هذه الصناعة، وهذا في نهاياته يقودنا إلى الاستنتاج المنطقي بأننا في واقع الأمر نتحدث عن منظومة مترابطة لإعادة تشكيل عملية البناء الثقافي السعودي في مجمله.
ويتعدى أثر الجائزة تكريم الفائزين والتنوية بالأعمال المميزة إلى تنمية قطاعات عديدة مثل النشر الذي بدأ يهتم بالروايات العربية، ومهدت الطريق للأسماء الجديدة ودعمت العديد من القطاعات الثقافية، وتأتي ديوانية القلم الذهبي -برغم استقلالها عن الجائزة- لتكون مساحة لتلاقي الأدباء والمثقفين من مختلف الأجيال والمجالات تعبيراً واضحاً عن تقدير الدولة للمثقف السعودي المبدع، إذ يصفها معالي المستشار تركي آل الشيخ بهدية للأدباء فهو بذلك يقدمها تكريماً مستديما للإبداع الوطني.
جودة الحياة مفهوم محوري
وهنا نستحضر فقرة في رؤية المملكة 2030، جاء فيها نصاً:
تأتي سعادة المواطنين والمقيمين على رأس أولويات المملكة، وسعادتهم لا تتم دون اكتمال صحتهم البدنية والنفسية والاجتماعية. سوف يتمتع المجتمع بنوعية حياة جيدة ونمط حياة صحي ومحيط يتيح العيش في بيئة إيجابية إنها تتحدث عن جودة الحياة.
والحديث عن جودة الحياة أصبح مفهوماً محورياً في البحوث والدراسات، واستُخدم بمعان متعددة في سياقات مختلفة في العلوم الطبيعية والإنسانية، وفي هذا الإطار، دخل مفهوم جودة الحياة -كمؤشر ومعيار قياسي- إلى مجالات عدة. ومن وجهة النظر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ينصب الاهتمام على هناء المجتمع ورفاهته، وما يتوفر لأفراده من وسائل الترفيه.
هكذا يمكننا أن نستعير كوجيتو ديكارت من فضاء الفلسفة إذا أردت أن تضيف كلمة (سعيد) إلى حالة الإنسان الوجودية!
فالنشاط الترفيهي قديم قدم الاجتماع البشري على الأرض، وهو حاجة تكاد ترقى أهميتها لمستوى حاجاته البيولوجية، وهي بالفعل ترقى بالنسبة للفرد والجماعة. والترفيه في التعريف العام، شكل من أشكال النشاط الذي يثير انتباه واهتمام الأفراد والجمهور، ويثير المتعة والسرور والشعور بالبهجة والإثارة. وهو يتخلل حياة الناس على مدى ساعات اليوم، ولا تكاد تخلو لحظات منه دون فاصل ترفيهي، أيّاً كان شكله، وتكاد أغلب أشكال أنشطة الترفيه وأحدثها مغرقة في القدم وتطورت على مدى آلاف السنين وتم تحديثها بشكل أو آخر، ويمارس الناس في مجتمعنا النشاط الترفيهي بشكل يومي. وإلا ما الذي يفعله الناس حين يتركون منازلهم ويذهبون إلى الحدائق؟ وما الذي يفعله الكبار في قصور الأفراح والاستراحات؟
ماذا نسمى منافسات الدومينو والشطرنج والبلوت، والرقص والغناء في الأفراح والمناسبات الاجتماعية والوطنية والمهرجانات والعروض المسرحية والسينمائية، وسباقات الخيول والهجن، إن لم تكن ترفيهاً؟
في العصر الحديث تم تسريع العملية من خلال صناعة الترفيه التي تسجل وتبيع المنتجات الترفيهية. على وجه التحديد لغرض كسب وجذب الجمهور على أوسع نطاق، وتنوعت منتجات الترفيه لإشباع رغبات الناس المتنوعة، لأن الأفراد لديهم تفضيلات مختلفة.
ويتطور الترفيه ويمكن تكييفه ليلائم أي نطاق، بدءاً من الفرد الذي يختار وسيلة ترفيه خاصة به، من مجموعة هائلة وهذا ما يمنح صناعة الترفيه مرونة وقدرة على التطور لا تتمتع بها القطاعات الأخرى. إذ تتمتع الأشكال المألوفة للترفيه بالقدرة على تجاوز الوسائط المختلفة، كما أظهرت إمكانات غير محدودة على إعادة المزج الإبداعي.
فُتحت النوافذ والأبواب المغلقة في وجه مختلف شرائح المجتمع السعودي صغاراً وكباراً من الجنسين ليعيشوا حياة مبهجة يستشعرون فيها السعادة، لتفعيل طاقات المواطنين وإطلاق قدراتهم على العطاء المثمر على كافة المستويات، حتى على مستوى إنتاجية الفرد وأدائه العملي، أيّاً كان موقعه في منظومة التنمية الشاملة.
لذا كان برنامج (جودة الحياة) في رؤية المملكة 2030 هو المفتاح الذهبي لباب التطور المجتمعي، وتهيئة المناخ الملائم، معرفياً ووجدانياً ونفسياً للفرد السعودي ليلعب دوره الإيجابي في إنفاذ محاور الرؤية التي ستدعم تنافسية دولته عالمياً، لتحتل مقعدها بين الكبار، ما سينعكس على حياته جودةً، ويرتفع بمستواها لآفاق الرفاهية.
ومن هذا المنظور السعودي تلعب برامج وفعاليات الترفيه دوراً مزدوجاً للارتقاء بجودة الحياة.
لا ينكر عاقل أهمية وفعالية الترفيه في تحقيق مشروع رؤية المملكة النهضوية الطموحة ومواكبة خطى الدولة المتسارعة للارتقاء والتقدم.
فإلى جانب ما للترفيه من أثر إيجابي في تحسين شعور الإنسان بالسعادة وبجودة حياته، إذ تُساعد وسائل الترفيه الجيدة الإنسان على التخلص من التوتر والإجهاد، وتمنح العقل مساحة ضافية للتفكير، تُطلق هرمون الإندروفين أو هرمون السعادة والرضا بعيداً عما يُسبب له التوتر.
وتُساعد وسائل الترفيه، على الاسترخاء، من خلال البعد عن توتر الأنشطة اليومية الروتينية، إذ إنّ ذلك يُعزز الصحة النفسية والعقلية ويرفع من الروح المعنوية، ويجدد نشاط العقل والحالة الذهنية للفرد. فأداء الإنسان الذي يغمره الشعور بالرضا عن حياته في العمل، يختلف بلا شك عن سواه.
هندسة المجتمع وانفتاحه على العصر، على نحو لا يسمح لتربته أن تكون مهيأة لنمو بذور الفكر الضال، وذلك بتحديث المجتمع وفتح نوافذه، وإفساح المجال أمام جميع شرائحه للمشاركة والمساهمة في حركة التنمية في إطار مشروع نهضوي متكامل وشامل تطلعاً لمستقبل مزدهر تتحقق فيه قوة الدولة ورفاه مواطنيها يحتاج دون شك إلى إرادة سياسية نافذة قوية وقرارات شجاعة وعزم، لتحصين المجتمع ببرامج ثقافية وترفيهية متنوعة ستكون ترياقاً مضاداً لفيروسات الفكر الضال.
دعم تنافسية الدولة عالمياً
لقد وضع معالي المستشار تركي آل الشيخ بصمته المتميزة الخاصة على البرنامج الذي كُلف بتنفيذه وفي إطار الرؤية الكلية لمملكة المستقبل، فانطلق من قناعة راسخة ترفدها تجاربه الحافلة، وتتمثل هذه القناعة في فهم ووعي متطور معاصر للترفيه ورسالته بأنه استثمار اقتصادي ذو مردود معنوي أيضاً فعمل على عدة مسارات أشبه ما تكون بأنهار متعددة تصب في محيط الوطن.
أهمية مأسسة النشاطات الإبداعية
إذا كنت تبحث عن الاستدامة فعليك بالمأسسة؛ بمعنى آخر، دون مأسسة برامج الثقافة والفنون والترفيه، والاكتفاء بشكل مطلق على ما يوحيه الخيال وملكة الإبداع للمبدع وحده، تصير البرامج كجزر متقطعة منفصلة، كل فعالية منها عبارة عن جزيرة، لا يربطها رابط بالفعاليات الأخرى، فلكل فعالية رؤيتها ومنطلقاتها الخاصة المنفردة.
بينما أهداف رؤية المملكة هي في الواقع عبارة عن كلّ متكامل مترابط البرامج، ينتظمها جميعاً خيط نهضوي يهدف إلى تغيير الواقع الاقتصادي بنفس قدر التغيير الذي يستهدف الواقع الاجتماعي، وكل محور وبرنامج منها، على صلة بالمحاور والبرامج الأخرى. من هنا، فإن كل مبادرة فردية خلاقة لن يكتب لها البقاء والاستدامة إلا إذا هي انتظمت في السياق المؤسسي. ففيه -أي في السياق المؤسسي- يكتب لها البقاء والاستدامة وتتحقق قيمتها.
وديوانية القلم الذهبي تقف شاهداً على تحقيق هذه القيمة.