يؤكد المفكر المغربي الدكتور عيّاد أبلال، أن العالم العربي والإسلامي مع كل رمضان يشهد عددا من الممارسات والطقوس المرتبطة بالصيام، التي باتت لصيقة بالتدين العربي الشعبي، ما يشوّش في العمق إلى روحانية هذه الطقوس التعبدية، ويضبب صورة المسلمين عموما، وتغدو العلاقات الاجتماعية، بما تخفيه من حيف واستبعاد اجتماعي، محلاً لهذا التدين الكرنفالي، موضحاً أنه إذا كان شهر رمضان شهراً مقدّساً عند المسلمين، فإنه عقب إفراغه من محتواه الروحي الذي لا ينفصل عن بعده المدني والأخلاقي يتحوّل إلى مجرد طقس اجتماعي دون دلالة روحية.
ويرى أنه إذا كان الدين عملياً أحد أهم العوامل المساعدة على تخليص الإنسان من التوتر وتبديد طاقة التدمير والموت لديه وتحويلها إلى طاقة للحياة، خصوصا إذا ترافقت أشكال التدين بالتأمل الروحي، باعتباره جوهر الدين الذي يجعل الإنسان يرتقي إلى مستويات من المدنية والسلم، وكل ما تقدم كفيل بإشاعة قيم المحبة والخير، إلا أن هيمنة البعد الفرجوي والكرنفالي لأشكال التدين المختلفة، باختلاف الثقافات والسياقات على الجانب التعبدي، تجعل التدين نفسه مسرحاً لشتى أنواع الانحرافات والأنوميا.
وعزا انزياح أخلاق المؤمن الصائم القانت إلى ربه، الذي يصوم رمضان إيماناً واحتساباً، والموظف الذي يسيء معاملة المواطنين بحجة الصيام، إلى اقتراف عموم الناس العنف بدعوى صيام رمضان، وهي الحالة التي يبرر من خلالها «الصائم» ما اقترفه، وهي حجة في عمقها دليل على غياب أي بعد روحي لرمضان، مضيفاً أن تحوّل الانقطاع الإرادي عن شهوتي البطن والفرج إلى انقطاع قسري، بما يلزم من قسرية تعبدية تجعل الجسد أساس الدين والتدين بدل الروح، والمظهر عوضاً عن الجوهر، ما جعلها ميسماً بات يميز مختلف أشكال التدين المظهرية، والتي أسميها بالكرنفالية، من قبيل إقامة صلاة التراويح في الفضاء العام، بما في ذلك الشوارع والطرقات، وما يقتضي من مخاطر قطع الطريق على الناس في ظروف صعبة أو حرجة: المرض، سيارات الإسعاف، استعجال قضاء حاجة، توقيف حركة السير، كما يحدث في المدن الكبرى. ولفت إلى أنه متى كانت الكرنفالية تكمن في التركيز على التمظهر الجسدي في بعده الاستعراضي والهيمنة على الفضاء العام، وامتداد صفوف المصلين إلى الشارع العام لمجرد توفرها على إمام مقرئ حسن الصوت في قراءته للقرآن، والناس في ذلك يتوافدون من كل حدب وصوب بحثاً عن خشوع مفترض يخلّصهم تعبدياً من قهر الزمن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ويمنحهم فرصة للبكاء، كلما بكى وانتحب المقرئ والخطيب، حيث يتحوّل البكاء نفسه إلى رمز تلخيصي للعبادة، إذا جاز لنا استعارة مفاهيم (تيرنر).
ويشير عياد أبلال إلى أن الصوت يتحوّل إلى اقتصاد للجسد الكرنفالي، علماً بأن الخشوع مسألة روحية جوهرية عميقة وداخلية بالأساس، وأكبر من كونها مجرد صوت، ومن كونه ظاهرة خارجية أو في حاجة إلى محفز خارجي حواسي. ولعلنا نجد في توصيف عبدالله القصيمي في «العرب ظاهرة صوتية» خير دليل على ذلك، وقال: من الخطورة الاعتماد على الجسد الاستعراضي في كافة مجالات التدين التي باتت تفتقد الخشوع الحقيقي، والمجتمع يفتقد إلى القيم الأخلاقية الروحية النبيلة، متعلّقاً بالبعد الاجتماعي للعبادات التي تم تحويلها إلى مجرد كرنفال، يتجاوز البعد الفردي إلى البعد الجماعي، خصوصاً حينما تحصل الفوضى وكافة سلوكيات العنف الناتجة عن غياب الحوار والتسامح والإيثار، إذ ينتقل الخلاف بين الصائمين إلى خلاف جماعي يتسم بالعنف والعنف المضاد، وهذا ما تشهده بعض الحارات والأسواق والفضاءات الشعبية بشدة.
وأبدى أبلال تحفظه على تحول الصيام من شعيرة روحية إلى طقس اجتماعي؛ كون الصيام يكمن أساسه الجنيالوجي في الإمساك عن الكلام الفاحش، إذا عدنا إلى تاريخ الصيام في الديانات السابقة، وحتى في فلسفة رمضان الروحية، قبل أن يكون إمساكاً عن شهوات البطن والفرج هو أساس روحي، لا مجرد أشكال طقوسية. ولهذا، فالصائم يصوم عن الأكل والشرب، دون أن يصل روحياً إلى حالة التماهي مع الإلهي والوجد الروحي.