Connect with us

ثقافة وفن

مبدعون «في مهب رياح التواصل»

كان مألوفاً؛ تعلّق المبدعين الشبان؛ برموزهم وروادهم، وكان الرواد يبشرون بأصوات لافتة، ويقدمونها في مناسبات وفعاليات،

كان مألوفاً؛ تعلّق المبدعين الشبان؛ برموزهم وروادهم، وكان الرواد يبشرون بأصوات لافتة، ويقدمونها في مناسبات وفعاليات، ونادراً ما نسمع أو نقرأ اليوم تبشير ناقد بكاتب، فيما تبنى جيل معاصر (قطيعة عفوية) مع كباره، مكتفياً بنوافذ مواقع التواصل والسوشيل ميديا، وهنا نطرح على عدد من المعنيين سؤال «هل ما زال الروَّاد يعتنون بالمواهب الشابة ويوجهون مسارهم ويتبنَّون أصواتهم؟».

ترى الناقدة الأكاديمية الدكتورة سهام العبودي، أن العناية قائمة، إلا أنه ربما تغيَّرت صورتها؛ أو أنَّ شكل الحياة ربما قاد إلى تغيير حتميٍّ ومؤثِّر: موضحةً أن الموهبة كانت محدودة منافذ الظهور والرعاية، لكنَّ التقنية منحتها نافذة حرَّة واسعة: نشراً واتّصالاً وظهوراً وشيئاً من الرعاية من المؤسسات، والروَّاد، ومن جمهور واسع متنوِّع، وعدّته العبودي؛ شكلاً من أشكال الوصول الذي يمنح فرصة ثمينة للموهبة، لافتة إلى أن الرعاية المؤسساتيَّة حاضرة على نحو ظاهر؛ كون ثمَّة أنشطة مُستقطِبة، وورشات عمل، ولقاءات تجعل المبدع المبتدئ في حضرة قريبة من المبدع الخبير، وهنا يصبح الأمر معقوداً على ذكاء الاقتناص، وقبله على الإنتاج المبدع الخلَّاق.

فيما وصفت الناقدة سهام حسين القحطاني، الموهوبين بـ«النفط البشري» كونهم ثروة وجوهر المستقبل النهضوي لأي مجتمع، ولا يمكن أن نضع له خط نهاية. وأضافت: لهذه القيمة والأهمية غدت رعاية الموهوبين سواءً على المستوى الأدبي أو العلمي (أولوية) لدى المجتمعات سواءً على مستوى البحث عنهم، أو تقديم البرامج الداعمة لموهبتهم، وعدّت الرعاة المتخصصين «مصدراً من مصادر تنمية واستثمار الموهوبين ورسم الطريق الصحيح الذي يحقق الفائدة النهضوية سواءً للموهوب أو لمجتمعه أو للتنافسية العالمية»، وقالت القحطاني: مع تطور النظرة لقيمة الموهوب واستحداث وسائل تنميتها واستثمارها من خلال (المؤسسات المتخصصة) التي تضم -بدورها- رعاة لتلك المواهب، ومنها؛ التعليم وما يوفره من برامج متخصصة لرعاية الموهوبين، لافتةً إلى «تراجع دور الرواد إزاء بروز دور المتخصصين في تنمية تلك المواهب واستثمارها؛ ولذلك أسباب منها: جهل كثير من الموهبين بالرواد أو طريقة التواصل معهم، وعدم تبني الرواد برامج أو وسائل رقميّة لتكون حلقة وصل بينهم وبين المواهب، إضافة إلى غياب واقعية التعايش بين الرواد والموهبين الجدد، ما قلّص دور الرواد للمسافة صفر.

ويؤكد الناقد الدكتور عبدالله السمطي، أنَّ من بين الأدوار النقدية التي يفترض أن ينهض بها الناقد الأدبي؛ تبنّي أصوات أدبية مبدعة من الأجيال الشابة، وأن يعمل على تقديمها للمشهد الأدبي والثقافي، وأن يتابع إنتاجها بين مرحلة وأخرى إلى أن يترسخ وجودها، وتتجلى إسهاماتها الإبداعية بشكل واضح، مبدياً اهتماماً بهذا الدور الذي يكتشف فيه المواهب والأصوات الجديدة بين مرحلة وأخرى دون توقف.

مشيراً إلى دور النقاد في مراحل سابقة؛ إذ قدّموا أصواتا شعرية وقصصية وروائية كثيرة، ومنهم عميد الأدب العربي؛ طه حسين، ومحمد مندور، والعقاد، ومارون عبود، وعبدالقادر القط، إضافةً إلى رؤساء تحرير المجلات الأدبية، والمجلات الثقافية التي قدمت عدداً كبيراً من الأصوات الأدبية الموجودة على الساحة اليوم. وعدّها منظومة ثقافية شاملة من الصحف والمجلات والإعلام المرئي والمسموع، فيما يظل دور النقاد ضرورياً في كل مرحلة؛ كونهم يضيئون الطريق أمام الأجيال الجديدة، وأضاف السمطي: «على مستوى شخصي، ربما أزعم، أنني من أكثر النقاد الذين كتبوا عن التجارب الشبابية في الرواية والقصة والشعر، وهناك أسماء كثيرة على الساحة كنت أول من كتب عنها وأول من قدمها، مستثمراً عملي في الصحافة لأكثر من ثلاثة عقود»، مؤكداً أنه لن تكتمل مسيرة الناقد إلا إذا قام بتقديم أجيال جديدة للمشهد كما كان يفعل رواد النقد الأدبي.

فيما يتحفّظ الناقد حامد بن عقيل على السؤال بحكم أنه ينطلق من مسلّمة أن الرواد كانوا يعتنون بالمواهب الشابة، قائلاً: لا أدري إن كانت هذه حقيقة بالفعل، فهناك أندية أدبية، ودوريات ونشرات تصدر عنها، وملاحق وصفحات ثقافية في المجلات والجرائد، وكل هذه الأنشطة والإصدارات كانت بحاجة إلى مادة، وهذا لا يعني بأية حال وجود دعم من الرواد، الذين لا نتفق على تسميتهم بالرواد لأنهم ليسوا الأقدم، ولا من وضع الطريقة أو القواعد التي لا يمكن تجاوزها، لافتاً إلى أنه «بالنسبة للساحة الثقافية السعودية، لو كان هناك دعم من الجيل السابق لجيلنا لما توجّه مثلاً لكتابة النقد، كون كل من سبق، خصوصاً النقاد، اشتغلوا بجيلهم وبمشاريعهم، حتى أن منهم من كتب حكاية الثقافة السعودية وكأنها كانت تُنتج وتخرج من ملحق منزله!». ويرى أن الثقافة بالعموم قائمة على القطيعة بين أدباء الجيل الواحد، وبينهم وبين من سبقهم أو من سيأتي بعدهم، كونها فعلاً فردياً في غالب فنونه وأجناسه، وإن حدث دعم ما من اسم أدبي لآخر من الجيل الذي يليه فإنه لا يخرج عن كونه أستذة لا تستمر، ليشعر الأستاذ بأنه المنعم المتفضل على من جاء بعده، فهي بهذا تلبية احتياج نفسي لصاحب الالتفاتة الكريمة.

ويذهب الكاتب صبحي موسى، إلى أنه لم يعد جيل الرواد أو الكُتّاب الأكبر سنّاً، معنيين بالعناية بالمواهب واكتشافها وتقديمها للأوساط الثقافية، إذ باتت مهمة الورش التي انتشرت في كل مكان، والمعني بها كتاب شباب نالوا الشهرة بسبب الجوائز أو غيرها، فأسرع كل منهم على التأكيد على حضوره، واستثماره بين الجماهير بإقامة ورشة يحضرها كل راغب في تعلم الكتابة، مؤكداً أن «مواقع التواصل الاجتماعي غدت معنية أكثر بذلك، فكل كاتب شاب أو جديد جهز لنفسه مجموعة من الأصدقاء والأصحاب والأهل الذين يمتدحون كتابته على الفيس أو غيره، فضلاً عن ابتكاره طرقاً جديدة للترويج لنفسه، فغدا كاتباً وشهيراً من أول حرف، ومن ثم لم تعد الآليات القديمة موجودة سواء في اكتشاف الكتاب الكبار للمواهب، أو تصدير الجرائد والمجلات لها، بحكم تغيّر كل الآليات القديمة ليصبح الجميع أمام أدب غير ناضج في أغلبه، ما يهدد مستقبل الكتابة بشكل عام، فضلاً عن خطر الذكاء الاصطناعي عليها».

تساءل الكاتب علي عطا: أين هم الرواد؟ الجيل الأدبي الأكبر عندنا، في مصر، هو جيل الستينيات، ولم يتبق منه أحد تقريباً. ويتبقى من الجيل الأسبق الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، وهو معروف بوقوفه ضد القصيدة التي تلت قصيدة التفعيلة التي يعد هو أحد أبرز روادها على المستوى العربي، وأقصد هنا قصيدة النثر، وحتى شعراء قصيدة التفعيلة من الأجيال التالية لجيله الذي ظهر في خمسينيات القرن الماضي، لا أعتقد أنه دعم منهم سوى أسماء قليلة بمنطق أبوي لا يمكنه التسليم بأن الابن قد يفوق ابنه موهبة، فتلك الأسماء تدور عادة في فلك الدراويش وتجدهم يتحلقون حول شيخهم منتظرين ما يمكن أن يجود به من عطايا، من قبيل مثلاً التصريح مثلاً بأن فلاناً هذا شاعر جيد، أو أنه يستحق منصباً في بيت الشعر، أو في لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة أو جائزة تشجيعية من الدولة. وهناك ممن يمكن أن نطلق عليهم -مجازاً- أنهم رواد لا يتحمسون إلا لنساء لا يميزهن سوى أنهن جميلات، يحدث ذلك في الشعر والقصة والرواية والنقد الأدبي، على نحو مفضوح في كثير من الأحيان. وهناك أيضاً من هؤلاء من لا يخجل من إظهار غيرته ليس من زملاء جيله فحسب، بل وأيضاً من الشباب فيطلق عليهم في مجالس النميمة الشائعات، من قبيل أن فلاناً هذا الذي فاز بجائزة مرموقة إنما يسرق منه ومن غيره. وإن تحمس لشاب ما، فأيضاً يكون ذلك مشروطاً بأن يكون من دروايشه لعله يدفع به إلى الفوز بجائزة ما أو بسفر إلى بلد يدفع لضيوفه بسخاء.

علي عطا:

أين هم الرواد ؟!

Continue Reading

ثقافة وفن

الخرائط الذهنية

إن أفكار أي شخص وتصوراته عن نفسه وعن العالم، تتضمنها خريطة ذهنية كَوَّنها له دماغه، فهو محكوم بهذه الخريطة ويعتقد

إن أفكار أي شخص وتصوراته عن نفسه وعن العالم، تتضمنها خريطة ذهنية كَوَّنها له دماغه، فهو محكوم بهذه الخريطة ويعتقد أن أي فكر يخالف خريطته الذهنية هو فكرٌ ضال.

إن خريطته الذهنية عن الأفكار والتصورات مماثلة لخريطته الذهنية عن الأماكن؛ فحين يقود أي شخص سيارته في مكان يعرفه فإنه يتحرك بشكل تلقائي حسب الخريطة الذهنية التي يحتويها دماغه.

ولكن ما إن تختلط عليه الطرق حتى يفقد التوجيه، وهذا الموضوع كان ولا يزال محل بحوث ودراسات متخصصة، وقد كان البروفيسور كين هيل أحد المهتمين في دراسة ظواهر الخرائط الذهنية المكانية، حيث يبقى الشخص غير قادر على معرفة الاتجاه الصحيح؛ لأن خريطته الذهنية تكون مقلوبة فكلما تحرك ازداد ابتعاداً عن الاتجاه الصحيح. يقول البروفيسور كين هيل:

«لا يستطيع الشخص التائه أن يحدد موقعه ولا اتجاهه ولا يمتلك الوسائل لإعادة توجيه نفسه».

ويقول عالم الفيزياء جون إدوارد هوث: «ظل الباحثون يدرسون لعقود جامعين ببطء العناصر التي تشكل آلية رسم الخرائط عقليًّا».

ويضيف: «يوجد نوعان من الخلايا يخلقان الخارطة العقلية؛ خلايا المكان وخلايا الشبكة».

ومن الظواهر ذات الدلالة العميقة أن التائه يكابر فإذا لم يكن يعرف أنه تائه فإنه يرفض أي تصحيح أو توجيه يأتيه من خارجه ويظل متشبثا بموقفه وعن ذلك يقول العالم هوث:

«يحاولون عقلياً أن يقحموا خصائص يشاهدونها كي تنطبق حتى لو كانت العلاقة بينهما ضئيلة». إن التائه الذي لم يقتنع بأنه تائه يصر على أنه في الاتجاه الصحيح ويكابر ويلوي الخريطة التي معه لكي تتفق مع خريطته الذهنية.

إن هذه حقائق شديدة الأهمية حيث يتبين منها أن كل فرد يُكَوِّن له دماغه خريطة ذهنية هي التي تحدد علاقاته بالناس وبالمكان وبالأفكار وبالتصورات، إنها وسيلته لرؤية العالم وهذا يستوجب أن يتربى الناس ويعلَّموا هذه الحقائق لكي يواصلوا تحديث خرائطهم الذهنية باستمرار.

Continue Reading

ثقافة وفن

الغذامي: المتنبي لابسٌ للحكمة متلبّس بالنسق!

في كتاب الدكتور عبدالله الغذامي (اللابس المتلبّس.. من أوراق أبي الطيب المتنبي) الصادر حديثاً في مئة وأربعة وثمانين

في كتاب الدكتور عبدالله الغذامي (اللابس المتلبّس.. من أوراق أبي الطيب المتنبي) الصادر حديثاً في مئة وأربعة وثمانين صفحة من القطع المتوسط عن المركز الثقافي العربي لفتات مهمّة، ووقفات تفتح الأفق باتجاه المتنبي النسقي، وليس المبدع الذي اتفق عليه الناس.

الغذامي وصف المتنبي بقوله: «هو اللابس للحكمة والمتلبّس بالنسق، عاش في عقل شجاع ولكن في وجدان خائف أو عقل حكيم ووجدان منفعل بالرهبة!».

اعترف الغذامي ابتداءً بسيطرة المتنبي على ذاكرته، لذلك حضر في كتاباته بشكل أذهله، واحتلاله حيزاً من كتاباته لم يكن مخططاً له ولا متقصداً!

المتنبي الذي قال عنه الغذامي أيضاً إنه «فيلسوف إذا تحرّر من ذاتيته، ونسقي إذا كان ذاتياً».

انشغال بالنقد الثقافي

دفعني انشغال الدكتور عبدالله الغذامي بالنقد الثقافي وانصرافه الكامل عن النقد الأدبي في شعر المتنبي إلى البحث عن الأسباب التي دفعته إلى هذا، وكان من أهمّ ما وجدت أنّ الانغماس في دراسة الأنساق الثقافية والانهماك في النقد الثقافي كان نتيجة شعوره بتراجع حالة التذوق التقليدية للشعر، وتراجعها كثيراً عنده، فلم يعد يستسلم لجماليات الشعر كما كان!

استوقفتني بعض اللفتات التي أشار إليها الدكتور الغذامي في كتابه هذا كحالة القلق الكتابي التي تأتي من متعة الكتابة، المتعة الحقيقية في الفكر (كما قال) هي أن تقرأ، بينما الشقاء أن تكتب، والأشقى من الشقاء ألّا تكتب، بمعنى أن تكون الفكرة في رأسك فلا تكتبها!

الغذامي لفت في كتابه هذا إلى سيطرة المحفوظات الشعرية علينا، وغياب ملكة الحس النقدي للمادة المستهلكة، لهذا نظل نردد المتنبي وكأنه هو النموذج المعرفي والذوقي والفلسفي أيضاً!

الغذامي رأى المتنبي نموذجاً ينتمي لثقافة كانت تمثل ذائقة ذلك العصر وعقليته، وليس لنا أن نزعم أنه يمثل عصرنا ولا أنه يقدم لأجيالنا أي نموذجية ثقافية ومعرفية، ولن يخلصنا من هذه الدوامة المغلقة إلاّ نقد خطاب المتنبي!

لماذا المتنبي؟

يتساءل الغذامي: لماذا يعجبنا المتنبي؟!ويجيب: لأنه يعبّر عن نسقيتنا وتعالينا على الآخرين واستعدادنا الذهني للانقلاب عليهم متى ما غضبنا منهم، المتنبي يمثّل الشرّ الذي فينا، ونظل نحاول تغطيته، ونترك المتنبي يعبّر عنّا بدليل تمثلاتنا بأبياته وطربنا لها وتجنبنا نقدها!

ومع هذا، فالغذامي يرى أنّ المتنبي جمع القصيدة والحكاية، ولو جعلنا حكايات القصائد مع الشعر معاً في خطاب واحد فسنقدم ذاكرتنا الثقافية للأجيال الحديثة في صيغ تكسر رتابة التعليم التقليدي الذي لم يعد فاتناً ولا مدهشاً ويسبب عوائق لتذوّق الشعر وتشرّب النماذج العليا التي لم يعد الحفظ صالحاً فيها ولا لافتاً كما قال، لكنه يضيف أنّ للمتنبي حيلاً في أبياته تسير على كلّ الألسنة رغم ما فيها من أنساق تشبه الفيروسات في قدرتها على التجدد والتحوّر!

السلفيّة اللغوية

لا يكتفي الغذامي في كتابه هذا بالحديث عن المتنبي، بل يعرّج على اللغة، فيذكر جماعة (قل ولا تقل) الذين وصفهم بالوصاة على لغة الإبداع والفكر فلا نتكلّم إلاّ بعد إذنهم، وجماعة (الفصيح) وقصد بها لغة الأسلاف تلفظاً ومعنى، فننطق كما نطقوا، ونلتزم بمعاني نطقهم فلا نجترح المعاني التي لم يجترحوها!

وخلص في هذا إلى أنّ هذه تربية ذهنية وسلوكية هدفها صناعة أجيال تقلّد أمواتها حذو القذة بالقذة!

التباكي فطرة ثقافية

في كتاب اللابس المتلبّس يخرج الغذامي عن المتنبي وأوراقه إلى النسق الثقافي بشكل عام، فيؤكد في إحدى مقالاته على التباكي وأنّه فطرة ثقافية سائدة، مستشهداً بالتباكي على شيوع ثقافة التفاهة والتسطيح، وكأنّنا نفترض أنّ كلّ متعاطٍ مع الثقافة لا بدّ أن يكون مبدعاً ماهراً ومتفوقاً جاداً، وهذا افتراض لا معنى له كما يرى الغذامي، ولم يحدث قديماً ولن يحدث الآن، متسائلاً:

كم عدد من نعرفهم من مواليد الكوفة ممّن قالوا شعراً في زمن ميلاد المتنبي، وفي المقابل من ظلّ منهم في ذاكرة الزمن؟!

واستشهد الغذامي بيتيمة الدهر للثعالبي وكم شاعر في مجلداته الأربعة بقي؟!

ولفت الغذامي إلى الذاكرة التي نخلت الجموع واصطفت منها ما يستحقّ الإبقاء حيّاً في الرواية أوّلاً ثم في التدوين، وأكد أنّ علّة زمننا هذا في سهولة النشر عبر الوسائل العامة وسهولة البقاء على سطح الاستقبال وفي محيط النظر، ولهذا توارت ظاهرة الفرد وحلّت محلها ظاهرة الجموع الفنيّة التي تغطّي فضاءات الاستقبال بتنوّع وتعدّد بسرعة فائقة يمحو بعضها بعضاً!

وأنّ هذا التباكي لاحتكار المشهد إذ يرى كل شخص أنّ حقه في البقاء والخلود يتعرض لمزاحمة من آخرين قد يفوز بعضهم بانتباه أكثر لأسباب تتعلّق بتأثير اللحظة التي تصادف عادة لحظة مواتية فيشيع اسم ويتراجع اسم آخر كان مشعاً!

أما الجماهير التي كانت تتهم بأنها «عاوزه كذا» فللغذامي رأي مختلف في هذه المسألة إذ عدّ هذا اتهاماً تتوسل به النخب إما للتعالي على الناس أو لإحالة الخلل إليهم، واستشهد على ذلك بمقولة فساد الزمان وفساد الذوق وانحطاط الثقافة، واكتفى بالرد عليها بقول الشاعر: وهم فسدوا وما فسد الزمان!

وفي الموضوع الأكثر إثارة في كتابات الغذامي حديثه عن التدوين في العصر العباسي الذي قال فيه إنّ ثقافتنا العربية مدينة للمدونين العباسيين الذين فتحوا صدورهم لاستقبال الرواة وحفّاظ الشعر ومروّجي الحكايات ليدونوا كلّ ما وصل إليهم بمهنيّة عالية وغير منحازة ولا تشرطيّة وبحريّة مطلقة وتسامح غير مشروط، إلاّ أنه أشار إلى أنّ هذا التسامح قد يبلغ حدود التساهل وعدم التحرّي والتأكد من صحة المروي.

وأكد الغذامي أن هذا تساهل محمود لأنهم يتعاملون مع قليل مما فات وطمرته الذاكرة، لذلك لم يكن هناك خيار في الحذف والاستبعاد فجاء المنحول لرواج سوق الرواية وما تدرّه من مال وجاه!

التراث ملتبس

يرى الغذامي أن مصطلح التراث ملتبس من حيث كونه يوحي بالقديم دون الجديد، ومن ثم جاء مصطلح الحداثة وكأنه يعني المواجهة مع القديم، غير أنّ النظر الواقعي يكشف أنّ كلّ قديم كان جديداً في زمنه وكل حداثي سيكون قديماً لدى الآتين من بعده، وسيشمل مصطلح التراث الجانبين معاً بما في ذلك كلامنا هذا الذي سيدخل في ذاكرة الثقافة بمجرد نشره، وذكر الغذامي أنّ الصراع بين الحداثة والتراث صراع في التأويل وفي التوظيف، وهذا يعني أننا نحن البشر نظل نستعيد الأمرات عبر قراءتنا لهم، وكل استعادة هي توظيف متجدد لما أنجز من قبل! لذلك نحن نعيد إحياء المتنبي كلما ذكرنا اسمه وقرأنا نصوصه وسيتبع ذلك أننا سنقوم بتفسير نصه حسب مهاراتنا؛ أي أنّ النص للمتنبي نسبة وانتساباً ولكنه لنا توظيفاً وتأويلاً وتفعيلاً.

وأشار إلى أنّ المتنبي كان تفاعلياً بدرجة عالية قبل عصر التفاعلية الذي نعيشه الآن، ولو كان حياً بيننا اليوم لوجدناه من أبرز المغردين حضوراً وتفاعلاً، فقد كان يغرد قبل ثقافة التغريد ليس في شعره فحسب، بل في نظام تفكيره أيضاً وفي صيغه التعبيرية التي تجمع بين الحكمة والشعرية مع الاقتصاد اللغوي وحرارة المعنى!

المتنبي خارج النسق

القصيدة الوحيدة للمتنبي التي اعترف الغذامي بجمالها دون لكن، ودون أن يدخلها في قائمة النسق والنقد الثقافي هي قصيدة (الحمّى) ومع أننا نحب المتنبي، ونتمثل أشعاره دون أن نسأل لماذا نحبّه، إلاّ أنّ الغذامي يفسّر هذا الحبّ بأننا مدفوعون بالمخبوء فينا حتى لكأن المتنبي يقول ما كنا نريد قوله، ويؤكد أننا إذا تعرفنا على ما يعجبنا في المتنبي فإننا نتعرف على الجبن الثقافي الذي نتوارثه كما ورثه المتنبي وورّثه لنا!

لذلك ظللنا أسرى لحكمة المتنبي التي نرتضيها ونطلبها ونرددها في استشهاداتنا ومحفوظاتنا، ونغضّ الطرف عن نسقيته وكأنّ المتنبي (كما قال الغذامي) يجمع بين عقل نرتضيه عبر الحكمة ووجدان نعيشه عبر العجب بالذات تلك التي ينوب عنا المتنبي في الحديث عنها في حين نستحيي نحن من الجهر بها، لذلك شغلنا وأشغلنا وشغّلنا، ولا يظن الغذامي أنّ أحداً فعل ما فعل المتنبي هذا في ذاكرتنا العربيّة!

الكتاب إجمالاً لا ينفي براعة المتنبي في كتابة القصيدة، ويعترف مؤلفه بأنّه واحد ممن استولى المتنبي على ذاكرته بما يحفظ من شعره، ويتمثّل به، إلاّ أنه يقف موقفاً صارماً من نسقيّة المتنبي.

هذا الكتاب خير شاهد على نقد الغذامي لنسقيّة أبي الطيب المتنبي مع تسليمه التامّ بسلطته!

Continue Reading

ثقافة وفن

الصورة الإيقاعية في ديوان «مشاؤون بأنفاس الغزلان»

يعدّ ديوان (مشاؤون بأنفاس الغزلان) للشاعر محمد الحرز، رحلة شعرية عميقة في عوالم الوجود والذات والبحث عن المعنى.

يعدّ ديوان (مشاؤون بأنفاس الغزلان) للشاعر محمد الحرز، رحلة شعرية عميقة في عوالم الوجود والذات والبحث عن المعنى. يتجلّى في هذا الديوان مزجٌ فريد بين الصورة الشعرية الغنية والعناصر الفلسفية التي تدعو للتأمل، حيث يبحر الشاعر بالقارئ في تفاصيل حسية ومجردة تمثل أبعاداً مختلفة للحياة الإنسانية. من خلال لغة شفافة وكثيفة، وصور متعددة الأبعاد، ينجح الحرز في نقل أحاسيسه العميقة تجاه قضايا الوجود والزمن والفقد والذاكرة، محولاً القصيدة إلى مساحة تأملية مفتوحة على التأويل.

يتناول الديوان موضوعات تمسّ جوهر التجربة الإنسانية؛ مثل الصراع بين الحضور والغياب، والبحث عن معنى للحياة وسط عبثية الوجود، وتداخلات الطبيعة والإنسان. كما يستخدم الشاعر أنماطاً من المزج التصوري التي تجمع بين الواقعي والخيالي، والحسي والمجرد، والإنساني والطبيعي، مما يمنح القصائد عمقاً وروحانية تدعو القارئ للدخول في حوار فكري وشعوري مع النص.

(مشاؤون بأنفاس الغزلان) ليس مجرد ديوان شعري تقليدي، بل هو مساحة للبحث عن الذات والتأمل في ما وراء الظاهر، وتذكير بمكانة الشعر كجسر يربط الإنسان بذاته وبالعالم المحيط به.

تتسم الصورة الشعرية في الديوان بالعمق والتنوع، إذ يلجأ الشاعر إلى الصور المركبة والمعبّرة؛ التي تعكس أفكاراً فلسفية ومعاني وجودية. الصور هنا ليست مجرد تعابير جمالية، بل هي أدوات لاستكشاف الذات والعالم، وتستخدم لتقديم رؤى تتجاوز الوصف السطحي لتصل إلى تعابير حسية ورمزية عميقة.

أمثلة على الصور الشعرية في الديوان:

الصورة الكونية:

في قوله: «كما لو أني أربي أشجاراً في نومي؛ كي أصحو على سقوط ثمارها»، يستخدم الشاعر صورة الأشجار التي تنمو في النوم وتسقط ثمارها كناية عن الأفكار أو المشاعر؛ التي تتشكل في اللاوعي وتظهر إلى السطح عند اليقظة. هذه الصورة تحمل دلالات على الانغماس في التجربة الشعرية والانتظار الدائم لحصادها.

التعبير عن الفقد:

يرسم الشاعر صورة مؤثرة عن الفقد في قوله: «الذكرى… قادرة أن تحدث شرخاً كبيراً في، كل لحظة، في جدار روح محبيه وأهله»، حيث تصبح الذكرى مثل مرآة صقيلة تعكس الحنين والألم، وتستطيع أن تترك آثاراً عميقة في نفوس الأحياء. التصوير هنا يوظف العلاقة بين الذاكرة والجروح، فيجعل الذكرى قوة تؤثر وتغير على نحوٍ دائم. وهو ما نجده في قصيدة (شاعر لا يموت إلا من دهشته إلى الشاعر علي الدميني).

الصور المركبة للأشياء البسيطة:

في مشهد آخر يقول الشاعر: «الانقطاع عن الشعر أمام هذه الصعوبات… يعني احترامه، واحترامه لا يعني سوى شيء واحد هو أن يعلن أنك مصاب بالزهايمر». هنا يدمج الشاعر بين الشعر وفقدان الذاكرة في صورة مركبة، ما يعكس استيعاب الشعر كجوهر للوجود والاستمرار، وأن البعد عنه يعني فقدان جزء أساسي من الهوية.

الصور الحسية في وصف الذكريات العائلية:

يقول: «أصرخ في كتبك أندس بين كلماتها أحذف سطراً هنا وأضيف سطرين هناك»، هذه الصورة تحمل إحساساً حيّاً للشاعر وهو يحاول إعادة تشكيل ذكرياته وماضيه من خلال التلاعب بالكلمات، وكأنه يعيد صياغة علاقته مع الزمن والأشخاص من خلال النصوص.

الصور السريالية:

في نص آخر يكتب: «الحياة قرب سلالم مكسورة لن تحجب عن الأعمى فضيلة الصعود»، حيث يمزج بين المشاهد السريالية والتعبيرات الرمزية ليبرز الجانب الوجودي من الحياة، هذه الصورة تعبّر عن الصراع بين اليأس والأمل، وتُظهر الصعود كقيمة تتجاوز الإعاقة المادية.

تتجاوز الصور الشعرية في هذا الديوان كونها وسيلة لإيصال المعنى، فهي تعمل كأدوات لتحفيز القارئ على التفكير والتأمل، وتضعه في مواجهة مباشرة مع مشاعر الحزن، الفقد، الحب، والبحث عن الذات. من خلال الجمع بين الصور الحسية والتجريدية، يخلق الشاعر أجواء متشابكة تعكس فلسفته الخاصة عن الوجود والذاكرة والعبثية.

وعلى مستوى الإيقاع، حظيت القصائد في ديوان (مشاؤون بأنفاس الغزلان)، باستخدام مجموعة من الأساليب الفنية التي تعطي النصوص طابعاً موسيقياً داخلياً دون الاعتماد على الأوزان التقليدية. إليك بعض الأمثلة من الديوان توضح هذه العناصر:

الإيقاع الداخلي:نجد استخداماً مكثفاً للإيقاع الداخلي الناتج عن تكرار العبارات، مثل قوله:

«يمضون وكأن شيئاً لم يكن. يكتبون وكأن شيئاً لم يكن. ثم يغادرون الحياة وكأن شيئاً لم يكن».

تكرار كلمة (لم يكن) يمنح الجملة نغمة إيقاعية تُعزِّز الشعور باللاجدوى والعبثية، وهذا التكرار يشكِّل موسيقى داخلية تساعد على تأكيد المعنى.

التنقل بين الجمل القصيرة والطويلة:

في نص آخر يقول:

«كلما طرق عليك الباب لاح سنارته وسحب كلمة أو كلمتين من قصيدتك ثم ودعك إلى لقاء قريب».

هنا نجد جملاً قصيرة تتبعها جمل أطول، مما يخلق إيقاعاً متذبذباً يشبه التنفس المتسارع والبطيء، مما يعطي القارئ إحساساً بالاستمرار والتوقف، كأن النص يترك مساحات للتأمل.

التكرار الدلالي:يستخدم الشاعر التكرار الدلالي لتعميق المعنى، مثل في النص التالي:

«الكتابة تدمير للعالم… لا أريد سوى تهشيم جمجمته بفأس الكلمات».

التكرار هنا لكلمة (تدمير) و(تهشيم) يساهم في إيقاع عنيف يعكس شعور الكاتب برغبة قوية في التمرد والهدم، مما يعزز من قوة النص واندفاعه.

اللغة التصويرية الحسية:

يلجأ الحرز إلى الصور الحسية التي تشدّ القارئ وتشركه في التجربة، كما يظهر في قوله

«يمضي الوقت مثل مرض معدّ… والمياه انسحبت من الأنابيب كي تتيح لأيامك المتوارية أن تتنفس».

تخلق هذه الصور إحساساً بأن الكلمات تتحرك وتتنفس، مما يعزز إيقاع القصيدة عبر المشاهد المتحركة في ذهن القارئ، ويمنح النص نوعاً من الحياة والحركة.

التأمل والفراغات:

يترك الشاعر فجوات للتأمل، كما يظهر في أسلوبه عند الحديث عن معنى الحياة والوقت:

«كلمة إثر كلمة تنزل السماء عاريةً بين يديّ، والمصاب بخنجر الزمن وجههُ مغطى بدم اللغة».

هنا، المساحات بين العبارات تعطي فرصة للتوقف والتفكير، مما يجعل القارئ يتأمل الصور ويستشعر ثقل الزمن، مضيفاً بُعداً إيقاعياً نابعاً من صمت النص.

ليعتمد إيقاع القصائد في هذا الديوان على خلق تدفق سلس بين الصور والتراكيب اللغوية، مترافقاً مع عناصر التكرار والتأمل، مما يمنح النصوص بعداً موسيقياً مميزاً ومختلفاً، ويعكس تجربة الشاعر مع الوجود والزمن بشكل يعمق التواصل مع القارئ.

وهناك أنواع من المزج التصوري في الديوان، تعزز من عمق الصور الشعرية وتضفي على النصوص طابعاً فلسفياً ورمزياً. إليك بعض الأمثلة من الديوان التي توضّح أنواع المزج التصوري:

المزج بين الإنساني والطبيعي:يستخدم الشاعر صوراً تجمع بين الإنسان وعناصر الطبيعة لتوضيح حالاته الشعورية والوجودية، مثل قوله: «كما لو أني أربي أشجاراً في نومي؛ كي أصحو على سقوط ثمارها». في هذه الصورة، يعبر الحرز عن تجربته النفسية عبر صورة الشجرة التي تثمر في الخفاء ثم تظهر نتائجها في العلن، مما يعكس عملية النضج والتأمل الداخلي.

المزج بين الواقعي والخيالي:

يمزج الشاعر في إحدى الصور بين الفعل الواقعي والخيالي لتقديم فكرة فلسفية، كما في تعبيره: «الكتابة تدمير للعالم». هنا، يجعل من الكتابة فعلاً تخيلياً يعادل التدمير، وهو ما يضيف بُعداً سريالياً ويرمز إلى رغبة الشاعر في إعادة تشكيل العالم من خلال الكلمات، مما يمنح النصوص بعداً أسطورياً.

المزج بين الحسي والمجرد:

تتجلى قدرة الشاعر على المزج بين الصور الحسية والمعاني المجردة في قوله: «الذكرى… قادرة أن تحدث شرخاً كبيراً في جدار روح محبيه وأهله». يستخدم الحرز هنا صورة حسية تتعلق بالجدار للتعبير عن الألم العميق الذي يمكن أن تتركه الذكرى، مما يخلق إحساساً ملموساً للمشاعر المجردة.

المزج بين الثقافي والكوني:يعتمد الحرز على عناصر ثقافية تشير إلى التاريخ والوجود، كما يظهر في وصفه «يباغتك صوتك صادراً عن أغوارك السحيقة». هنا، يجمع بين المعرفة الثقافية عن النفس البشرية والتأمل الوجودي، ليقدم صورة تنقل إحساساً بالاتصال بالذات والوعي العميق بالعالم.

أخيراً.. يعتمد محمد الحرز على هذه الأنواع من المزج التصوري لتوسيع نطاق معاني القصائد، حيث تتفاعل الصور مع أفكار فلسفية وإنسانية عميقة تجعل القارئ يتأمل في أبعاد جديدة عن النفس والعالم من حوله.

Continue Reading

Trending

جميع الحقوق محفوظة لدى أخبار السعودية © 2022 .