Connect with us

ثقافة وفن

جاسم الصحيح: النقد تخلّى عن عباءة الشغف للدراسات الجامعية

حينما كان ظِلُّ جاسم الصحيّح (الشعري)، خليفةً على الجمال، عانقت الشموعُ الدموعَ فأذكت صبابة القصيدة، ورقصت رقصتها

حينما كان ظِلُّ جاسم الصحيّح (الشعري)، خليفةً على الجمال، عانقت الشموعُ الدموعَ فأذكت صبابة القصيدة، ورقصت رقصتها العرفانية، فلمّا جنّ عليها الليل، استغاثت بحمائم المجاز النورانية لتكنس عن محيطها العتمة، فطغت كواكب الشعر على ظلام أولمبياد الجسد، وغذّت الأنجمُ المساء بنحيب الأبجدية، فابتنت الملائكة في فضائه أعشاشها، لتستمرئ خيالاته التحليق بذائقتنا في سماء مصيدة الإبداع الفاتن، وهنا حوار موسّع مع الشاعر العربي الأفخم (أبو أحمد)..

• هل القصيدة فكرة أم عاطفة؟

•• هي فكرة ينفذها القلب، وعاطفة يوجهها العقل، فهي بينهما، لا أستطيع أن أقول هي فكرة فقط، ولا عاطفة بمفردها، القصيدة تحويل الفكرة إلى صورة، إلا أن هذه الصورة يجب أن تكون مُبطّنة بعاطفة، وليست صورة جوفاء.

• من أين جاءك إلهام الشعر؟

•• منطلق الشعر عندي شغف، بقراءة الأدب، منذ تفتحت سنابل الوعي على حقل الحياة، وفي طفولتي المبكرة بدأت العلاقة مع الشعر، خصوصاً المناسبات الرثائية في الحسينيات، ولا علاقة للجينات، فلا أبي شاعرٌ ولا جدّي، فأنا أوّل شاعر في العائلة.

• ماذا تعني لك الموهبة الشعرية؟

•• هي هذا الشغف، وهذا الحُبّ للقصيدة، ومن لديه الشغف يمكنه أن يتعلّم (النظم) وحفظ البحور، وتحاول أكثر من مرة، ولكن معنى أن تكون موهوباً، أن تشكّل لغتك الخاصة، وغير الموهوب لا يستطيع تكوين لغة خاصة، ويبقى نسخة مكررة من الآخرين، فالموهبة خلق، هذه اللغة الخاصة والأسلوب الذي لا تشترك فيه مع غيرك.

• من الذي أخذ بيدك من الشغف، إلى الكتابة؟

•• بدأتُ بجهود ذاتية، ثم استشعرتُ ضرورة التواصل والتفاعل مع الآخرين، وعبر المماحكة انتبهتُ لما أحتاجه من التطوير للتجربة.

• ما المؤثر الرئيس في نواتك الشعرية؟

•• تأثرتُ منذ الطفولة باستماعي للمراثي الحسينية، وهناك شعراء كبار، دائماً أقول عنهم لو توجهوا للكتابة للحياة لفاقوا غيرهم، ومنهم السيّد حيدر الحلّي، الذي لو كتب للحياة لعجز أحمد شوقي عن مجاراته، ناهيك عن تخطيه، لكنه انغلق على الأيديولوجيا، فهو شاعر الأيديولوجيا الشيعية بامتياز، بل الأول.

• كيف ترى أثر الحمولات الشعرية على الشعر «فكرية، تسييس، شعارات»؟

•• أنا أعتقدُ أن السياسة تدخل في الشعر، والأيديولوجية، وكل شيء، لكن قدّمه لي شعراً، عبر الأسلوب، فلا تقدمه لي خطابةً، وهنا نتساءل، ما الذي يُميّز الفنّ؟ فأي فنّ علامته الكبرى (الإيحاء) لا يكون مباشراً، فعندما يكون مباشراً يفسد، فالبُعد المجازي في الكتابة الشعرية يمنح القصيدة حضوراً وتميّزاً، فأنا أحياناً أكتبُ في الغزل، وتقتحم النص فكرة سياسية، وهنا تأتي مهارة توظيف المجاز والنأي عن الخطابة والمباشرة.

• ماذا عن الغراميات المكشوفة؟

•• ممكن يستوعبها الشعر، والجنس يدخل في القصيدة؛ لأنه جانب من جوانب تجربة الإنسان، ويظل المهم كيف يتم تقديمه، فقصيدة محمود درويش (يطير الحمام يحط الحمام) قصيدة جنسية بامتياز، إلا أن القارئ لا يشعر بذلك.

• متى شعرتَ بالقلق على القصيدة كونها تمر بأزمة؟

•• أنا أميل وأُرجّح أن يكون الشعر وتكون الثقافة في أزمة، دائماً أنا مع الأزمة لأنه بسببها نتطوّر، فلا ننزعج من كون الأزمة قائمة، ولو لم تكن لأحدثناها (ينبغي أن تكون هناك أزمة) وأن نشعر بأننا في أزمة إبداعية؛ لأنّ الإبداع بلا حدود، والذات متى ما وصلت ماتت.

• ماذا عن شعور البعض باعتلائه القمّة؟

•• لا قمّة للثقافة ولا للإبداع، مهما صعدت أو دنوت انفتح مدار وأفق يستوعب الصعود، والمدارات يشق بعضها بعضاً.

• ألا تنزعج من كثرة الشعراء؟

•• صحيح الشعراء أضعاف مضاعفة مقارنة بأزمنة سابقة، ونكتشف تجارب شابة أحياناً من خلال حسابات التواصل، تصل لدرجة التميّز والفرادة، لكنها تعيش في الظلّ، فهناك عمل واجتهادات، ولا يزال المطلوب منا أكثر وأكثر.

• ما تعليقك على احتكار مجموعة شعراء للأمسيات، وكأنه تنظيم أو «لوبي»؟

•• أعتقد أن هذا الأمر انتهى، الآن وفي ظل شراكات ومبادرات شأن الشريك الأدبي، التي يعتقد البعض أن إطلاقها لإلغاء الأندية الأدبية، وهذا منافٍ للحقيقة، فالثقافة في مقهى شيء جيّد؛ كوننا ننقل الثقافة إلى عالم غير معتاد عليه، لتقريب الفعل الثقافي لرواد ومرتادي المقاهي، إلا أنه يظل للمؤسسات الثقافية روادها، وللمقهى رواده، ولا يوجد مانع من تقديم وجبات ثقافية في مقهى، وهذا لا يعني أننا سنحيل هذا المقهى إلى مصنع لإنتاج الثقافة، فالثقافة لا تُنتج في المقاهي، بل في مراكزها، إلا أن حضور الثقافة في المقهى جميل وتفاعلي.

• لم تجبني عن الشللية؟

•• هي ليست شلليّة في الحقيقة، فالمسؤول عن المقاهي يبحث عن المشاهير، وهذا ليس خطأ الوزارة ولا هيئة الأدب، بل طبيعي لأن صاحب الدعوة يريد أن يحضر أكبر عدد للفعالية، فيدعو الكاتب أو الشاعر المشهور؛ لأنه ضمانة لوفرة الحاضرين، بخلاف الشاعر أو الناقد المغمورين اللذين لا يعرفهما أحد، لن يحضر لهما إلا قلّة ربما.

• وهل ينطبق هذا على زمن ما قبل الشريك الأدبي؟ خصوصاً المسابقات والمعارض والمؤتمرات؟

•• لا شك أن المثقف الذي برز من خلال مسابقة أو جائزة أو للإيمان بشاعريته أو نقده له حظوة في بلد توجيه الدعوة، وهذا طبيعي، وأعترف أنني قدّمت أسماء للوزارة لمثقفين عرب غير مشهورين، لكنني مؤمن بقدراتهم الإبداعية، وتمت دعوتهم بناءً على تزكيتي لهم، ولا أرى عيباً في ذلك، بحكم القُرب، ومهما حاولت الوزارة والهيئة يظل هناك تقصير، ومن حق كل من لم تتم دعوته أن يعبّر عن مشاعره، مع تأكيد أن الوزارة حريصة على أن يأخذ كل مثقف حقه من الحضور.

• ألا ترى أن التكرار مملّ ومُجحف؟

•• عندما وقعنا في خطأ لموسمين منذ انطلاق الشريك الأدبي، جرى الانتباه وتمت المعالجة، فتم تحديد مشاركة الكاتب أو الشاعر لخمس مرات في الموسم الواحد، بحيث تعطى فرصة لآخرين.

• ما العبء الذي تتحمّله بسبب الفوز بالجوائز؟

•• الجوائز تحمّلك مسؤولية وعبئاً، فالواجب أن تدفعك للأمام، والمسؤولية تعني كيفية التعامل مع الجائزة والتكريم، هل يجتاحك طوفان الإعجابات، وتشعر بالوصول، والشعور بالوصول خطر لأنه موت، أم تقوم بترشيد الإعجابات، وتحوّلها إلى ما ينفع الناس، وما ينفع نفسك، بحيث نعمل على تطوير الذات والقدرات وتستشعر المسؤولية أكثر، مع حفظ الحق في أيام معدودة للفرح بما تحقق ثم ينسى ذلك وراء ظهره، ويتوجه للمستقبل، ويتعب على نفسه أكثر، فهي معادلة، لا يحلها إلا الفائز بالجائزة.

• لماذا غاب النقد الأدبي؟

•• أعتقد بحكم تجربتي الشخصية، فأنا حاضر في المشهد الثقافي منذ أربعة عقود، وعايشت فترة النقد، وفترة اهتمام نقاد الصف الأول بالتجارب عبر الصحف والمجلات، وعايشت التحول نحو النقد الثقافي، ولاحظت أن النقد الذي تحظى به المجموعات الشعرية، ينحصر في دراسات وبحوث جامعية للترقية، وقدم دارسون أكثر من عشر دراسات أكاديمية عن شعري، طبعاً تخلى النقد الأدبي القديم النابع من شغف الناقد وحبه للشعر والأدب عن عباءته لدراسات جامعية مفروضة على الباحثين، وهذا شيء خطير، وربما يكون من معطلات عجلة النمو الإبداعي؛ لأن الدراسات الجامعية لا تكفي، كونها هدفاً للشهادة التي يحصل عليها الدارس، بينما النقد المتولّد عن شغف، ومحبة يكون أقرب للشاعر، وللمتلقي ويتم تناوله وتداوله.

• منْ كتب عن تجربتك؟

•• كتب عني النقاد محمد الحرز، ومحمد العبّاس، ومبارك بو بشيت، والأستاذ محمد العلي، واستفدت كثيراً مما كتبوا، وأول مجموعة شعرية (ظلّي خليفتي عليكم) كتب مقدمتها الشاعر محمد العلي، وكانت ثلاثة أرباعها نقداً، رغم الحبّ الذي نكنه لبعضنا، واستفدتُ من نقده، وربما لو كان غيري ما ثبّتها في المقدّمة، وتفاجأ الراحل الدكتور غازي القصيبي -رحمه الله- بمقدمة العلي، وعلّق قائلاً: «أعرفُ أنّ محمد العلي لا يكتب مقدمات»، وأيضاً كتب القصيبي عن الديوان مقالاً في المجلة العربية بعنوان «الأحساءُ تُطلقُ صاروخاً شعريّاً»، وزخرت المقالة التي يبدو عنوانها إطراء بالملاحظات والنقد، وفرحتُ بما كتبه، ويكفيني فخراً أن يتناول تجربتي في بكورها القصيبي والعلي.

• لمن تقرأ؟

•• أنا أقرأ للجميع القصيدة الكلاسيكية والشعر النثري والتفعيلة، ولا بد أن أقرأ يومياً، كما أني أعشق كتب الفلسفة، ومتأثر بالأفكار الفلسفية؛ خصوصاً من الفلاسفة الشعراء ومنهم (فردريك نيتشة)، وأحب قراءة الرواية المثيرة التي تستحق، ومن الرواية التي زلزلتني (موت صغير) لمحمد حسن علوان، وأدهشني توظيفه لمفردات تركية، وكذلك (الديوان الإسبرطي) لعبدالوهاب عيساوي، ولدينا خيمة المتنبي، وهي عبارة عن نادٍ أسسناه وستة شعراء وتبنينا المواهب، نبحث عنهم، ونتسلم القصائد ونقرأها، ونكوّن منها ديواناً، وننسقه ونراجعه ونفحصه، ونعدّل قدر الإمكان بموافقته ورضاه، ثم نحصل على الفسح، ثم نطبعه على حسابنا، ثم نعمل حفلاً تدشينياً للديوان ونقدّم هذا الشاعر للمجتمع، ونقول له، انطلق، وبرنامج (قول على قول) يحتاج مني نحو ثلاثة أشهر من القراءة والإعداد.

• كأنك تتفادى إيراد أسماء الشعراء الذين تقرأ لهم؟

•• بالعكس بداية قراءتي كانت في نهج البلاغة (لابن أبي الحديد) شارح نهج البلاغة، وهو أجزاء عدة، وكل جزء يطعمه بالتاريخ، فكانت قراءة للتاريخ والبلاغة، وكذلك أحببتُ المستطرف في كل فنّ مستظرف، للأبشيهي، وبداية القراءة الشعرية مع المتنبي وأحمد شوقي معاً، فانبنى وجداني بناءً عمودياً، وحتى لو كتبتُ تفعيلة، فهي تخرج تفعيلة عمودية.

• ماذا عن علاقتك بالشعر الشعبي؟

•• أستمتعُ بالقصيدة الشعبية شأن الفصيح، ولا أُفرّق بين الأجناس إلا بالجودة، وأتمنى لو كُتبَ الشعر الشعبي الفائق الجمال بالفُصحى خوفاً عليه من الاندثار، والشاعر فهد عافت خسره الشعر العربي الفصيح، وسليمان المانع كسبه الشعر الشعبي، كما أقرأ لصالح الشادي، والحميدي الثقفي، ومحمد السعيد، فالشعر ماء العطر والصيغ أواني، وإن كان النبطي يعاني صعوبة الفهم والتذوق، في أقطار العربية، فالفصيح العذب أوسع انتشاراً من العذب الشعبي، وأضرب مثالاً بقصيدة محمد عبدالباري (زرقاء اليمامة) تطلب منه في موريتانيا وتطلب في اليمن.

• ما رأيك بغناء قصائدك؟ هل لديك تحفّظ؟

•• بالعكس، الغناء يفتح آفاقاً أوسع لانتشار القصيدة، وغنى لي الفنان عبدالخالق رافعة، بعضاً منها بصورة محدودة، والفنان رامي عبدالله نصاً وطنياً، وطلبت مني وزارة الثقافة نصوصاً، لغنائها في مهرجان مخصص لغناء القصائد الفصيحة.

• كيف ترى مستوى ومستقبل الشاعرات السعوديات؟

•• هناك أسماء حاضرة ورائدة، فوزية أبو خالد من جيل سبقنا، وهي مميزة وبمستوى الشعراء الكبار، إن لم تتفوّق على بعضهم، والشاعرة ثريا العريّض، تفعيلياً، ولدينا شاعرات ولا أحب الدخول في النديّة، منهم حوراء الهميلي، وهيفاء الجبري، واعتدال الذكرالله، ربما لا أتذكّر الجميع، والأهم أن يكون الشعر موجوداً.

• هل لديك طقس كتابي؟

•• أكتب عندما أتأثر بحدث ما، أو فكرة أو أستشرف وأتذكر، وأبدأ بالتأمل وحالة الاستقراء للحُلم، وكلما تعمق التأمل الذي يشبه المعول الذي يكسر صخور اللغة ينبع الماء بتدفق، وتنمو الزهور، وطقسي الهدوء، ولو لم أكن وحدي، ولحظة الكتابة انفصال ذات، وشعور بالعزلة المُنتجة، وأهم شيء عمل القلب والعقل، وينكتب النص دفعة وعلى دفعات، وأشطب وأضيف وأحذف.

• هل أنت شاعر مطبوع أم مصنوع؟

•• الصنعة أكثر، وكما قال أحد الشعراء الأوروبيين «أحاول أن أوهم المُتلقي أني كتبتُ قصيدتي بالفطرة» وهذه الموهبة.

• من أوّل قارئ لنصك؟

•• أنا.

Continue Reading

ثقافة وفن

الخرائط الذهنية

إن أفكار أي شخص وتصوراته عن نفسه وعن العالم، تتضمنها خريطة ذهنية كَوَّنها له دماغه، فهو محكوم بهذه الخريطة ويعتقد

إن أفكار أي شخص وتصوراته عن نفسه وعن العالم، تتضمنها خريطة ذهنية كَوَّنها له دماغه، فهو محكوم بهذه الخريطة ويعتقد أن أي فكر يخالف خريطته الذهنية هو فكرٌ ضال.

إن خريطته الذهنية عن الأفكار والتصورات مماثلة لخريطته الذهنية عن الأماكن؛ فحين يقود أي شخص سيارته في مكان يعرفه فإنه يتحرك بشكل تلقائي حسب الخريطة الذهنية التي يحتويها دماغه.

ولكن ما إن تختلط عليه الطرق حتى يفقد التوجيه، وهذا الموضوع كان ولا يزال محل بحوث ودراسات متخصصة، وقد كان البروفيسور كين هيل أحد المهتمين في دراسة ظواهر الخرائط الذهنية المكانية، حيث يبقى الشخص غير قادر على معرفة الاتجاه الصحيح؛ لأن خريطته الذهنية تكون مقلوبة فكلما تحرك ازداد ابتعاداً عن الاتجاه الصحيح. يقول البروفيسور كين هيل:

«لا يستطيع الشخص التائه أن يحدد موقعه ولا اتجاهه ولا يمتلك الوسائل لإعادة توجيه نفسه».

ويقول عالم الفيزياء جون إدوارد هوث: «ظل الباحثون يدرسون لعقود جامعين ببطء العناصر التي تشكل آلية رسم الخرائط عقليًّا».

ويضيف: «يوجد نوعان من الخلايا يخلقان الخارطة العقلية؛ خلايا المكان وخلايا الشبكة».

ومن الظواهر ذات الدلالة العميقة أن التائه يكابر فإذا لم يكن يعرف أنه تائه فإنه يرفض أي تصحيح أو توجيه يأتيه من خارجه ويظل متشبثا بموقفه وعن ذلك يقول العالم هوث:

«يحاولون عقلياً أن يقحموا خصائص يشاهدونها كي تنطبق حتى لو كانت العلاقة بينهما ضئيلة». إن التائه الذي لم يقتنع بأنه تائه يصر على أنه في الاتجاه الصحيح ويكابر ويلوي الخريطة التي معه لكي تتفق مع خريطته الذهنية.

إن هذه حقائق شديدة الأهمية حيث يتبين منها أن كل فرد يُكَوِّن له دماغه خريطة ذهنية هي التي تحدد علاقاته بالناس وبالمكان وبالأفكار وبالتصورات، إنها وسيلته لرؤية العالم وهذا يستوجب أن يتربى الناس ويعلَّموا هذه الحقائق لكي يواصلوا تحديث خرائطهم الذهنية باستمرار.

Continue Reading

ثقافة وفن

الغذامي: المتنبي لابسٌ للحكمة متلبّس بالنسق!

في كتاب الدكتور عبدالله الغذامي (اللابس المتلبّس.. من أوراق أبي الطيب المتنبي) الصادر حديثاً في مئة وأربعة وثمانين

في كتاب الدكتور عبدالله الغذامي (اللابس المتلبّس.. من أوراق أبي الطيب المتنبي) الصادر حديثاً في مئة وأربعة وثمانين صفحة من القطع المتوسط عن المركز الثقافي العربي لفتات مهمّة، ووقفات تفتح الأفق باتجاه المتنبي النسقي، وليس المبدع الذي اتفق عليه الناس.

الغذامي وصف المتنبي بقوله: «هو اللابس للحكمة والمتلبّس بالنسق، عاش في عقل شجاع ولكن في وجدان خائف أو عقل حكيم ووجدان منفعل بالرهبة!».

اعترف الغذامي ابتداءً بسيطرة المتنبي على ذاكرته، لذلك حضر في كتاباته بشكل أذهله، واحتلاله حيزاً من كتاباته لم يكن مخططاً له ولا متقصداً!

المتنبي الذي قال عنه الغذامي أيضاً إنه «فيلسوف إذا تحرّر من ذاتيته، ونسقي إذا كان ذاتياً».

انشغال بالنقد الثقافي

دفعني انشغال الدكتور عبدالله الغذامي بالنقد الثقافي وانصرافه الكامل عن النقد الأدبي في شعر المتنبي إلى البحث عن الأسباب التي دفعته إلى هذا، وكان من أهمّ ما وجدت أنّ الانغماس في دراسة الأنساق الثقافية والانهماك في النقد الثقافي كان نتيجة شعوره بتراجع حالة التذوق التقليدية للشعر، وتراجعها كثيراً عنده، فلم يعد يستسلم لجماليات الشعر كما كان!

استوقفتني بعض اللفتات التي أشار إليها الدكتور الغذامي في كتابه هذا كحالة القلق الكتابي التي تأتي من متعة الكتابة، المتعة الحقيقية في الفكر (كما قال) هي أن تقرأ، بينما الشقاء أن تكتب، والأشقى من الشقاء ألّا تكتب، بمعنى أن تكون الفكرة في رأسك فلا تكتبها!

الغذامي لفت في كتابه هذا إلى سيطرة المحفوظات الشعرية علينا، وغياب ملكة الحس النقدي للمادة المستهلكة، لهذا نظل نردد المتنبي وكأنه هو النموذج المعرفي والذوقي والفلسفي أيضاً!

الغذامي رأى المتنبي نموذجاً ينتمي لثقافة كانت تمثل ذائقة ذلك العصر وعقليته، وليس لنا أن نزعم أنه يمثل عصرنا ولا أنه يقدم لأجيالنا أي نموذجية ثقافية ومعرفية، ولن يخلصنا من هذه الدوامة المغلقة إلاّ نقد خطاب المتنبي!

لماذا المتنبي؟

يتساءل الغذامي: لماذا يعجبنا المتنبي؟!ويجيب: لأنه يعبّر عن نسقيتنا وتعالينا على الآخرين واستعدادنا الذهني للانقلاب عليهم متى ما غضبنا منهم، المتنبي يمثّل الشرّ الذي فينا، ونظل نحاول تغطيته، ونترك المتنبي يعبّر عنّا بدليل تمثلاتنا بأبياته وطربنا لها وتجنبنا نقدها!

ومع هذا، فالغذامي يرى أنّ المتنبي جمع القصيدة والحكاية، ولو جعلنا حكايات القصائد مع الشعر معاً في خطاب واحد فسنقدم ذاكرتنا الثقافية للأجيال الحديثة في صيغ تكسر رتابة التعليم التقليدي الذي لم يعد فاتناً ولا مدهشاً ويسبب عوائق لتذوّق الشعر وتشرّب النماذج العليا التي لم يعد الحفظ صالحاً فيها ولا لافتاً كما قال، لكنه يضيف أنّ للمتنبي حيلاً في أبياته تسير على كلّ الألسنة رغم ما فيها من أنساق تشبه الفيروسات في قدرتها على التجدد والتحوّر!

السلفيّة اللغوية

لا يكتفي الغذامي في كتابه هذا بالحديث عن المتنبي، بل يعرّج على اللغة، فيذكر جماعة (قل ولا تقل) الذين وصفهم بالوصاة على لغة الإبداع والفكر فلا نتكلّم إلاّ بعد إذنهم، وجماعة (الفصيح) وقصد بها لغة الأسلاف تلفظاً ومعنى، فننطق كما نطقوا، ونلتزم بمعاني نطقهم فلا نجترح المعاني التي لم يجترحوها!

وخلص في هذا إلى أنّ هذه تربية ذهنية وسلوكية هدفها صناعة أجيال تقلّد أمواتها حذو القذة بالقذة!

التباكي فطرة ثقافية

في كتاب اللابس المتلبّس يخرج الغذامي عن المتنبي وأوراقه إلى النسق الثقافي بشكل عام، فيؤكد في إحدى مقالاته على التباكي وأنّه فطرة ثقافية سائدة، مستشهداً بالتباكي على شيوع ثقافة التفاهة والتسطيح، وكأنّنا نفترض أنّ كلّ متعاطٍ مع الثقافة لا بدّ أن يكون مبدعاً ماهراً ومتفوقاً جاداً، وهذا افتراض لا معنى له كما يرى الغذامي، ولم يحدث قديماً ولن يحدث الآن، متسائلاً:

كم عدد من نعرفهم من مواليد الكوفة ممّن قالوا شعراً في زمن ميلاد المتنبي، وفي المقابل من ظلّ منهم في ذاكرة الزمن؟!

واستشهد الغذامي بيتيمة الدهر للثعالبي وكم شاعر في مجلداته الأربعة بقي؟!

ولفت الغذامي إلى الذاكرة التي نخلت الجموع واصطفت منها ما يستحقّ الإبقاء حيّاً في الرواية أوّلاً ثم في التدوين، وأكد أنّ علّة زمننا هذا في سهولة النشر عبر الوسائل العامة وسهولة البقاء على سطح الاستقبال وفي محيط النظر، ولهذا توارت ظاهرة الفرد وحلّت محلها ظاهرة الجموع الفنيّة التي تغطّي فضاءات الاستقبال بتنوّع وتعدّد بسرعة فائقة يمحو بعضها بعضاً!

وأنّ هذا التباكي لاحتكار المشهد إذ يرى كل شخص أنّ حقه في البقاء والخلود يتعرض لمزاحمة من آخرين قد يفوز بعضهم بانتباه أكثر لأسباب تتعلّق بتأثير اللحظة التي تصادف عادة لحظة مواتية فيشيع اسم ويتراجع اسم آخر كان مشعاً!

أما الجماهير التي كانت تتهم بأنها «عاوزه كذا» فللغذامي رأي مختلف في هذه المسألة إذ عدّ هذا اتهاماً تتوسل به النخب إما للتعالي على الناس أو لإحالة الخلل إليهم، واستشهد على ذلك بمقولة فساد الزمان وفساد الذوق وانحطاط الثقافة، واكتفى بالرد عليها بقول الشاعر: وهم فسدوا وما فسد الزمان!

وفي الموضوع الأكثر إثارة في كتابات الغذامي حديثه عن التدوين في العصر العباسي الذي قال فيه إنّ ثقافتنا العربية مدينة للمدونين العباسيين الذين فتحوا صدورهم لاستقبال الرواة وحفّاظ الشعر ومروّجي الحكايات ليدونوا كلّ ما وصل إليهم بمهنيّة عالية وغير منحازة ولا تشرطيّة وبحريّة مطلقة وتسامح غير مشروط، إلاّ أنه أشار إلى أنّ هذا التسامح قد يبلغ حدود التساهل وعدم التحرّي والتأكد من صحة المروي.

وأكد الغذامي أن هذا تساهل محمود لأنهم يتعاملون مع قليل مما فات وطمرته الذاكرة، لذلك لم يكن هناك خيار في الحذف والاستبعاد فجاء المنحول لرواج سوق الرواية وما تدرّه من مال وجاه!

التراث ملتبس

يرى الغذامي أن مصطلح التراث ملتبس من حيث كونه يوحي بالقديم دون الجديد، ومن ثم جاء مصطلح الحداثة وكأنه يعني المواجهة مع القديم، غير أنّ النظر الواقعي يكشف أنّ كلّ قديم كان جديداً في زمنه وكل حداثي سيكون قديماً لدى الآتين من بعده، وسيشمل مصطلح التراث الجانبين معاً بما في ذلك كلامنا هذا الذي سيدخل في ذاكرة الثقافة بمجرد نشره، وذكر الغذامي أنّ الصراع بين الحداثة والتراث صراع في التأويل وفي التوظيف، وهذا يعني أننا نحن البشر نظل نستعيد الأمرات عبر قراءتنا لهم، وكل استعادة هي توظيف متجدد لما أنجز من قبل! لذلك نحن نعيد إحياء المتنبي كلما ذكرنا اسمه وقرأنا نصوصه وسيتبع ذلك أننا سنقوم بتفسير نصه حسب مهاراتنا؛ أي أنّ النص للمتنبي نسبة وانتساباً ولكنه لنا توظيفاً وتأويلاً وتفعيلاً.

وأشار إلى أنّ المتنبي كان تفاعلياً بدرجة عالية قبل عصر التفاعلية الذي نعيشه الآن، ولو كان حياً بيننا اليوم لوجدناه من أبرز المغردين حضوراً وتفاعلاً، فقد كان يغرد قبل ثقافة التغريد ليس في شعره فحسب، بل في نظام تفكيره أيضاً وفي صيغه التعبيرية التي تجمع بين الحكمة والشعرية مع الاقتصاد اللغوي وحرارة المعنى!

المتنبي خارج النسق

القصيدة الوحيدة للمتنبي التي اعترف الغذامي بجمالها دون لكن، ودون أن يدخلها في قائمة النسق والنقد الثقافي هي قصيدة (الحمّى) ومع أننا نحب المتنبي، ونتمثل أشعاره دون أن نسأل لماذا نحبّه، إلاّ أنّ الغذامي يفسّر هذا الحبّ بأننا مدفوعون بالمخبوء فينا حتى لكأن المتنبي يقول ما كنا نريد قوله، ويؤكد أننا إذا تعرفنا على ما يعجبنا في المتنبي فإننا نتعرف على الجبن الثقافي الذي نتوارثه كما ورثه المتنبي وورّثه لنا!

لذلك ظللنا أسرى لحكمة المتنبي التي نرتضيها ونطلبها ونرددها في استشهاداتنا ومحفوظاتنا، ونغضّ الطرف عن نسقيته وكأنّ المتنبي (كما قال الغذامي) يجمع بين عقل نرتضيه عبر الحكمة ووجدان نعيشه عبر العجب بالذات تلك التي ينوب عنا المتنبي في الحديث عنها في حين نستحيي نحن من الجهر بها، لذلك شغلنا وأشغلنا وشغّلنا، ولا يظن الغذامي أنّ أحداً فعل ما فعل المتنبي هذا في ذاكرتنا العربيّة!

الكتاب إجمالاً لا ينفي براعة المتنبي في كتابة القصيدة، ويعترف مؤلفه بأنّه واحد ممن استولى المتنبي على ذاكرته بما يحفظ من شعره، ويتمثّل به، إلاّ أنه يقف موقفاً صارماً من نسقيّة المتنبي.

هذا الكتاب خير شاهد على نقد الغذامي لنسقيّة أبي الطيب المتنبي مع تسليمه التامّ بسلطته!

Continue Reading

ثقافة وفن

الصورة الإيقاعية في ديوان «مشاؤون بأنفاس الغزلان»

يعدّ ديوان (مشاؤون بأنفاس الغزلان) للشاعر محمد الحرز، رحلة شعرية عميقة في عوالم الوجود والذات والبحث عن المعنى.

يعدّ ديوان (مشاؤون بأنفاس الغزلان) للشاعر محمد الحرز، رحلة شعرية عميقة في عوالم الوجود والذات والبحث عن المعنى. يتجلّى في هذا الديوان مزجٌ فريد بين الصورة الشعرية الغنية والعناصر الفلسفية التي تدعو للتأمل، حيث يبحر الشاعر بالقارئ في تفاصيل حسية ومجردة تمثل أبعاداً مختلفة للحياة الإنسانية. من خلال لغة شفافة وكثيفة، وصور متعددة الأبعاد، ينجح الحرز في نقل أحاسيسه العميقة تجاه قضايا الوجود والزمن والفقد والذاكرة، محولاً القصيدة إلى مساحة تأملية مفتوحة على التأويل.

يتناول الديوان موضوعات تمسّ جوهر التجربة الإنسانية؛ مثل الصراع بين الحضور والغياب، والبحث عن معنى للحياة وسط عبثية الوجود، وتداخلات الطبيعة والإنسان. كما يستخدم الشاعر أنماطاً من المزج التصوري التي تجمع بين الواقعي والخيالي، والحسي والمجرد، والإنساني والطبيعي، مما يمنح القصائد عمقاً وروحانية تدعو القارئ للدخول في حوار فكري وشعوري مع النص.

(مشاؤون بأنفاس الغزلان) ليس مجرد ديوان شعري تقليدي، بل هو مساحة للبحث عن الذات والتأمل في ما وراء الظاهر، وتذكير بمكانة الشعر كجسر يربط الإنسان بذاته وبالعالم المحيط به.

تتسم الصورة الشعرية في الديوان بالعمق والتنوع، إذ يلجأ الشاعر إلى الصور المركبة والمعبّرة؛ التي تعكس أفكاراً فلسفية ومعاني وجودية. الصور هنا ليست مجرد تعابير جمالية، بل هي أدوات لاستكشاف الذات والعالم، وتستخدم لتقديم رؤى تتجاوز الوصف السطحي لتصل إلى تعابير حسية ورمزية عميقة.

أمثلة على الصور الشعرية في الديوان:

الصورة الكونية:

في قوله: «كما لو أني أربي أشجاراً في نومي؛ كي أصحو على سقوط ثمارها»، يستخدم الشاعر صورة الأشجار التي تنمو في النوم وتسقط ثمارها كناية عن الأفكار أو المشاعر؛ التي تتشكل في اللاوعي وتظهر إلى السطح عند اليقظة. هذه الصورة تحمل دلالات على الانغماس في التجربة الشعرية والانتظار الدائم لحصادها.

التعبير عن الفقد:

يرسم الشاعر صورة مؤثرة عن الفقد في قوله: «الذكرى… قادرة أن تحدث شرخاً كبيراً في، كل لحظة، في جدار روح محبيه وأهله»، حيث تصبح الذكرى مثل مرآة صقيلة تعكس الحنين والألم، وتستطيع أن تترك آثاراً عميقة في نفوس الأحياء. التصوير هنا يوظف العلاقة بين الذاكرة والجروح، فيجعل الذكرى قوة تؤثر وتغير على نحوٍ دائم. وهو ما نجده في قصيدة (شاعر لا يموت إلا من دهشته إلى الشاعر علي الدميني).

الصور المركبة للأشياء البسيطة:

في مشهد آخر يقول الشاعر: «الانقطاع عن الشعر أمام هذه الصعوبات… يعني احترامه، واحترامه لا يعني سوى شيء واحد هو أن يعلن أنك مصاب بالزهايمر». هنا يدمج الشاعر بين الشعر وفقدان الذاكرة في صورة مركبة، ما يعكس استيعاب الشعر كجوهر للوجود والاستمرار، وأن البعد عنه يعني فقدان جزء أساسي من الهوية.

الصور الحسية في وصف الذكريات العائلية:

يقول: «أصرخ في كتبك أندس بين كلماتها أحذف سطراً هنا وأضيف سطرين هناك»، هذه الصورة تحمل إحساساً حيّاً للشاعر وهو يحاول إعادة تشكيل ذكرياته وماضيه من خلال التلاعب بالكلمات، وكأنه يعيد صياغة علاقته مع الزمن والأشخاص من خلال النصوص.

الصور السريالية:

في نص آخر يكتب: «الحياة قرب سلالم مكسورة لن تحجب عن الأعمى فضيلة الصعود»، حيث يمزج بين المشاهد السريالية والتعبيرات الرمزية ليبرز الجانب الوجودي من الحياة، هذه الصورة تعبّر عن الصراع بين اليأس والأمل، وتُظهر الصعود كقيمة تتجاوز الإعاقة المادية.

تتجاوز الصور الشعرية في هذا الديوان كونها وسيلة لإيصال المعنى، فهي تعمل كأدوات لتحفيز القارئ على التفكير والتأمل، وتضعه في مواجهة مباشرة مع مشاعر الحزن، الفقد، الحب، والبحث عن الذات. من خلال الجمع بين الصور الحسية والتجريدية، يخلق الشاعر أجواء متشابكة تعكس فلسفته الخاصة عن الوجود والذاكرة والعبثية.

وعلى مستوى الإيقاع، حظيت القصائد في ديوان (مشاؤون بأنفاس الغزلان)، باستخدام مجموعة من الأساليب الفنية التي تعطي النصوص طابعاً موسيقياً داخلياً دون الاعتماد على الأوزان التقليدية. إليك بعض الأمثلة من الديوان توضح هذه العناصر:

الإيقاع الداخلي:نجد استخداماً مكثفاً للإيقاع الداخلي الناتج عن تكرار العبارات، مثل قوله:

«يمضون وكأن شيئاً لم يكن. يكتبون وكأن شيئاً لم يكن. ثم يغادرون الحياة وكأن شيئاً لم يكن».

تكرار كلمة (لم يكن) يمنح الجملة نغمة إيقاعية تُعزِّز الشعور باللاجدوى والعبثية، وهذا التكرار يشكِّل موسيقى داخلية تساعد على تأكيد المعنى.

التنقل بين الجمل القصيرة والطويلة:

في نص آخر يقول:

«كلما طرق عليك الباب لاح سنارته وسحب كلمة أو كلمتين من قصيدتك ثم ودعك إلى لقاء قريب».

هنا نجد جملاً قصيرة تتبعها جمل أطول، مما يخلق إيقاعاً متذبذباً يشبه التنفس المتسارع والبطيء، مما يعطي القارئ إحساساً بالاستمرار والتوقف، كأن النص يترك مساحات للتأمل.

التكرار الدلالي:يستخدم الشاعر التكرار الدلالي لتعميق المعنى، مثل في النص التالي:

«الكتابة تدمير للعالم… لا أريد سوى تهشيم جمجمته بفأس الكلمات».

التكرار هنا لكلمة (تدمير) و(تهشيم) يساهم في إيقاع عنيف يعكس شعور الكاتب برغبة قوية في التمرد والهدم، مما يعزز من قوة النص واندفاعه.

اللغة التصويرية الحسية:

يلجأ الحرز إلى الصور الحسية التي تشدّ القارئ وتشركه في التجربة، كما يظهر في قوله

«يمضي الوقت مثل مرض معدّ… والمياه انسحبت من الأنابيب كي تتيح لأيامك المتوارية أن تتنفس».

تخلق هذه الصور إحساساً بأن الكلمات تتحرك وتتنفس، مما يعزز إيقاع القصيدة عبر المشاهد المتحركة في ذهن القارئ، ويمنح النص نوعاً من الحياة والحركة.

التأمل والفراغات:

يترك الشاعر فجوات للتأمل، كما يظهر في أسلوبه عند الحديث عن معنى الحياة والوقت:

«كلمة إثر كلمة تنزل السماء عاريةً بين يديّ، والمصاب بخنجر الزمن وجههُ مغطى بدم اللغة».

هنا، المساحات بين العبارات تعطي فرصة للتوقف والتفكير، مما يجعل القارئ يتأمل الصور ويستشعر ثقل الزمن، مضيفاً بُعداً إيقاعياً نابعاً من صمت النص.

ليعتمد إيقاع القصائد في هذا الديوان على خلق تدفق سلس بين الصور والتراكيب اللغوية، مترافقاً مع عناصر التكرار والتأمل، مما يمنح النصوص بعداً موسيقياً مميزاً ومختلفاً، ويعكس تجربة الشاعر مع الوجود والزمن بشكل يعمق التواصل مع القارئ.

وهناك أنواع من المزج التصوري في الديوان، تعزز من عمق الصور الشعرية وتضفي على النصوص طابعاً فلسفياً ورمزياً. إليك بعض الأمثلة من الديوان التي توضّح أنواع المزج التصوري:

المزج بين الإنساني والطبيعي:يستخدم الشاعر صوراً تجمع بين الإنسان وعناصر الطبيعة لتوضيح حالاته الشعورية والوجودية، مثل قوله: «كما لو أني أربي أشجاراً في نومي؛ كي أصحو على سقوط ثمارها». في هذه الصورة، يعبر الحرز عن تجربته النفسية عبر صورة الشجرة التي تثمر في الخفاء ثم تظهر نتائجها في العلن، مما يعكس عملية النضج والتأمل الداخلي.

المزج بين الواقعي والخيالي:

يمزج الشاعر في إحدى الصور بين الفعل الواقعي والخيالي لتقديم فكرة فلسفية، كما في تعبيره: «الكتابة تدمير للعالم». هنا، يجعل من الكتابة فعلاً تخيلياً يعادل التدمير، وهو ما يضيف بُعداً سريالياً ويرمز إلى رغبة الشاعر في إعادة تشكيل العالم من خلال الكلمات، مما يمنح النصوص بعداً أسطورياً.

المزج بين الحسي والمجرد:

تتجلى قدرة الشاعر على المزج بين الصور الحسية والمعاني المجردة في قوله: «الذكرى… قادرة أن تحدث شرخاً كبيراً في جدار روح محبيه وأهله». يستخدم الحرز هنا صورة حسية تتعلق بالجدار للتعبير عن الألم العميق الذي يمكن أن تتركه الذكرى، مما يخلق إحساساً ملموساً للمشاعر المجردة.

المزج بين الثقافي والكوني:يعتمد الحرز على عناصر ثقافية تشير إلى التاريخ والوجود، كما يظهر في وصفه «يباغتك صوتك صادراً عن أغوارك السحيقة». هنا، يجمع بين المعرفة الثقافية عن النفس البشرية والتأمل الوجودي، ليقدم صورة تنقل إحساساً بالاتصال بالذات والوعي العميق بالعالم.

أخيراً.. يعتمد محمد الحرز على هذه الأنواع من المزج التصوري لتوسيع نطاق معاني القصائد، حيث تتفاعل الصور مع أفكار فلسفية وإنسانية عميقة تجعل القارئ يتأمل في أبعاد جديدة عن النفس والعالم من حوله.

Continue Reading

Trending

جميع الحقوق محفوظة لدى أخبار السعودية © 2022 .