أخرج الباحث الأكاديمي العريق الدكتور حمزة المزيني كتابه الأحدث (أكاذيب عشنها بها) الصادر عن دار جداول، ويتناول فيه بعضَ المقولات الشائعة في الثقافة العربية المعاصرة ولاسيما في الوعظ الديني أو (ما يسمى بـ«الدعوة» مما يتناقل الوعاظ (والدعاة) وبعض الكتّاب من مقولات من غير توثيق لمصدرها. ويَظن ناقلوها أن مجرد شيوعها وتكرارها في كتب قرأوها أو في مواعظ سمعوها يكفي توثيقًا لها.
ويتحفظ المزيني على إسناد أكثر هذه المقولات لسياسيين وكتّاب غربيين مشهورين أو لإسرائيليين يُعبِّرون فيها عن عدائهم للإسلام والمسلمين، أو يسخرون منهم أو يهددونهم؛ كما يمكن أن تتضمن ادعاءات عن «سرقة» علماء غربيين آراء بعض العلماء العرب القدماء من غير أن يعترفوا بأخذهم منهم، أو تتعلق بما يسمى «الإعجاز العلمي في القرآن»، إضافة إلى ادعاءات أخرى سيعرض لها الكتاب.
واستعرض الكتاب ؛ أمثلة على الادعاءات ؛ منها ما ورد في كتاب صدر مؤخرًا بعنوان: «حادثة اغتيال في مؤتمر إسلامي»، الذي تتبّع فيه مؤلفه «كذبة» طار بها بعض العرب وكرروا إيرادها في كتبهم ومقالاتهم من غير تثبّت. ويتصل موضوع الكتاب بالزعم بأن باحثًا تونسيًا اسمه الدكتور عثمان الكعّاك كان مشاركًا قبل سنوات في مؤتمر إسلامي عُقد في الجزائر ببحث يقول فيه إنه «عثر بين محتويات مكتبة (الفيلسوف الفرنسي) ديكارت الخاصة في باريس على ترجمة لكتاب الإمام الغزالي «المنقذ من الضلال»، ووجد أن ديكارت وقف عند عبارة الغزالي المشهورة «الشك أوَّلُ مراتب اليقين» ووضع تحتها خطًا أحمر ثم كتب هامشًا نصُّه «يُضاف ذلك إلى منهجنا». ومن الصُّدف أن الدكتور الكعاك وُجد متوفّى في الليلة السابقة لليوم الذي سيلقي بحثه في صباحه. وكان هذا التزامن بين وفاة الدكتور الكعاك، رحمه الله، والبحث «المهم» الذي كان سيلقيه ويكشف فيه عن «دليل» لا شك فيه على أن ديكارت قد قرأ كتاب الغزالي، وأنه أخذ فكرته عن الشك التي تُنسب إليه «زورًا» من كتاب «المنقذ من الضلال». ويعني هذا أن ديكارت لم يكن «سارقًا» وحسب، بل لا يستحق المكانة المرموقة التي يحتلها لأنه ارتكب محذورًا علميًا وأخلاقيًا بإخفاء المصدر الذي أخذ منه فكرته الفلسفية المركزية. ولو اعترف ديكارت بالمصدر الذي نقل عنه لأحدث ذلك تحوُّلًا في تاريخ الأفكار وتاريخ الفلسفة.
ولم يتوقف الأمر عند خبر وفاة الدكتور الكعاك؛ بل تعداه إلى الربط بين وفاته وموضوع بحثه. إذ كان هذا التزامن مبعثًا للقول «المتيقَّن» بأن وفاة الدكتور الكعاك كانت من تدبير يد خفيَّة وصلت في ظلام الليل إلى غرفته في الفندق لتقتله بقصد طمس «الحقيقة» التي اكتشفها.
والمدهش في هذه الحادثة «السرعة» الخيالية التي علِم بها الذين يدَّعون أنهم «قتلوه» بذلك الرأي الذي يهدم إحدى إنجازات الفلسفة الفرنسية، والغربية، والتدبير السريع لارتكاب تلك «الجريمة». و هذه «الادعاءات» الشائعة ليست صحيحة، و لا ارتباط بين وفاة الدكتور الكعاك والبحث الذي سيلقيه، و التقرير الطبي يؤكد بأن وفاة الدكتور الكعاك، رحمه الله، كانت طبيعية نتيجة لأزمة قلبية تعرَّض لها، إلا أنه لا تزال هذه الدعوى تتناقل، نقلًا عن الدكتور الكعاك أو عن غيره!
ومن تلك المقولات التي تُنسب إلى رئيسة وزراء «إسرائيل» السابقة (غولدا مائير)، ومنها:
«سُئلتْ عن أسوأ يوم وأسعد يوم في حياتها، فقالت: أسوأ يوم في حياتي يوم أن تمَّ إحراق المسجد الأقصى؛ لأنني خشيت من ردة الفعل العربية والإسلامية، وأسعد يوم في حياتي هو اليوم التالي؛ لأنني رأيت العرب والمسلمين لم يحركوا ساكنًا».
ومنها أنه «عندما حذروها بأن عقيدة المسلمين تنصُّ على حرب قادمة بين المسلمين واليهود سوف ينتصر فيها المسلمون عند اقتراب الساعة، قالت: أعرف ذلك، ولكن هؤلاء المسلمين ليسوا مَن نراهم الآن، ولن يتحقق ذلك إلا إذا رأينا المصلين في صلاة الفجر مثلما يكونون في صلاة الجمعة».
ومما يتصل بهذه المقولة ما قاله الواعظُ التلفزيوني المشهور عمرو خالد في مقابلة نشرتها صحيفة «اليوم السابع» المصرية في عددها الصادر في (1 تموز/يوليو 2015) في أحد أجوبته:
«… وقلت قبل ذلك لن ينصلح حال المسلمين حتى يكون عدد من يُصلي صلاة الفجر على قدر مَن يصلي الجمعة وهذا الأمر كان خاطئا…».
ولم يُبيِّن عمرو خالد إن كان يعني بقوله هذا أنه هو الذي كان قال هذا الكلام ابتداءً أم أنه يأسف فقط على أنه ردده بصفته قولًا شائعًا.
وترد هذه المقولة في كثير من المواقع الدعوية والحسابات في منصة (X) من غير نسبة إلى أحد محدد. إذ تقول إحدى النسخ منها: «قال أحد اليهود في كلمة مشهورة: «لن ينتصر المسلمون حتى يكون عدد المسلمين في صلاة الفجر كعددهم في صلاة الجمعة». فهل فهم هذا اليهودي طريق الانتصار أكثر من فهم المسلمين أنفسهم»؟
ومن الأقوال التي تُنسب إلى الزعماء الإسرائيليين، وتُورد من غير توثيق، الخبرُ التالي الذي تبدو عليه الصنعة الوعظية:
«هذا موشي ديّان وزير الدفاع اليهودي السابق دخل يزور إحدى القرى في فلسطين وأخذ يصافح الشباب المسلم في هذه القرية، ورفض شاب مؤمن من هذه القرية أن يمدَّ يده ليصافحه وقال له: أنتم أعداء أمتنا تحتلون أرضنا وتسلبون حريتنا، ولكن يوم الخلاص منكم لا بدَّ آتٍ بإذن الله لتتحقق نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتقاتلن اليهود أنتم شرقي النهر وهُمْ غربيّه». فابتسم ديّان وقال: حقًا سيأتي يوم نخرج فيه من هذه الأرض، وهذه نبوءة نجد لها في كتابنا أصلًا ولكن متى؟
إذا قام فيكم شعب يعتز بتراثه، ويحترم دينه، ويقدّر قيمه الحضارية، وإذا قام فينا شعب يرفض تراثه ويتنكر لتاريخه عندها تقوم لكم قائمة، وينتهي حكم إسرائيل».
ومن «أشهر» المقولات المكذوبة التي يتكرر إيرادها في مواقع التواصل الاجتماعي وفي كثير من المقالات قول منسوب للفيزيائي الفرنسي المعروف (بيير كوري)، زوج الفيزيائية المشهورة مدام كوري، عن «تقدم المسلمين العلمي في الأندلس». ومن الذين أوردوا هذه المقولة الدكتورة حنان آل سيف في مقال لها نشرته صحيفة «الجزيرة» بالصيغة التالية:
«لو لم تُحرق مكتبات العرب والإسلام لكنّا اليوم نتجول بين مجرّات الفضاء»، كما قال العالم الفرنسي (بيير كوري) الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء في عام 1902م. وقال أيضًا: «تمكنا من تقسيم الذرة بالاستعانة بثلاثين كتابًا بقيت لنا من الحضارة الأندلسية»، ثم يسترسل: «ولو كانت لدينا الفرصة لمطالعة المئات والآلاف من كتب المسلمين التي تعرَّضت للإحراق لكنّا اليوم نتنقل بين المجرات الفضائية».
ومن المفارقات الغريبة أن الدكتورة آل سيف أوردت في مقالها مصدرين اثنين وكأنها توحي بأنهما مصدران «موثوقان» لهذه المقولة. والمصدران هما:
1 – لماذا تأخَّر المسلمون ولماذا تقدَّم غيرهم؟ محمد سيد بركة، البيان 27 أيار/مايو 2012. عالم تعلم – جامعة الحياة، الاثنين 8 شباط/فبراير 2016م.
2 – الأندلس من الفردوس المفقود إلى أرض الأوهام، د. أحمد بن حامد الغامدي، منظمة المجمع العلمي العربي، 16 آب/أغسطس 2020.
ويلفت النظر أنَّ المصدر الأول الذي أوردته الدكتورة آل سيف لم يُورد تلك المقولة ولم يتكلَّم عنها. أما المصدر الثاني فقد أوردها وبيَّن عدم صحتها بحجج تاريخية وعلمية مُقنعة.
والسؤال: كيف يمكن للدكتورة آل سيف أن تُورد هذا الخبر الزائف، وتُورد هذين المصدرين كأنهما يوثقانه؟
وقد تتبَّع ناجح ناجي حسين في منشور على موقع «أفكار وكلمات» في «الفيسبوك» بتاريخ 9 أيار/مايو 2020م هذه المقولة وانتهى بنسبتها إلى الصحيفة التركية The Daily الموالية لحزب «العدالة والتنمية» التركي التي يملكها أحد أقرباء الرئيس التركي أردوغان. وصنَّفها أحد المواقع التي تهتم برصد المنشورات «الدعائية» بأنها أداة من أدوات حزب أردوغان الدعائية.
ويعقِّب الأستاذ ناجح على هذا القول قائلًا:
«هذا الاستشهاد ورد في مقال في صحيفة صباح التركية بقلم طالب تركي بمرحلة الدكتوراه في القانون الدستوري (!) يدعى FERHAT KÜÇÜK بتاريخ 29 أيلول/سبتمبر 2018. والترجمة الحرفية للاستشهاد: “قمنا بتقسيم الذرة بواسطة 30 كتابًا (هكذا!) فقط تبقّت لنا في الأندلس. ولو أُتيحت لنا الفرصة لفحص مئات الآلاف من الكتب، التي أحرقها هولاكو خان (الحاكم المغولي الذي أحرق (!) كتب الحضارة الإسلامية)، لكنّا الآن نلعب كرة القدم بين المجرات».
ووضع كاتب المقال هذا الاستشهاد المنسوب إلى بيير كوري بين علامتي تنصيص ولكنه لم يُشر إلى المصدر!
حاولتُ أن أبحث عن مصدر موثوق يؤكد أن بيير كوري مسؤول عما نُسب إليه فوجدت نفس الاستشهاد في مقال آخر بصحيفة تركية إلكترونية أخرى (كانون الأول/ديسمبر 2011) ولكن كاتب هذا المقال (A. Cihangir İşbilir) كان أعقل قليلًا من سابقه، فلم يذكر اللَعِب بالكرة في الشوارع الفضائية واكتفى بالتجوُّل بين المجرات. ومع هذا فهو لم يسند الاستشهاد إلى أي مصدر آخر.
فالإسناد إذن مطعون فيه.
ويظهر الكتاب بعض الرسوم المزيفة المنسوبة إلى «علماء» مسلمين يستخدمون أدوات لم تُخترع إلا في أوروبا بعد القرن الخامس عشر، ومنها مناظير الرصد الفلكي التي لم تظهر إلا مع غاليليو في بداية القرن السادس عشر، و وجدت هذه الرسوم المزيّفة طريقها إلى أرقى المتاحف في العالم، وتهافت على شرائها المهتمون بجمع مثل هذه «النوادر!»، ويوجد المصدر الذي يكاد يكون وحيدًا لهذا التزييف في مدينة إسطنبول التركية إذ تتخصص بعض الدكاكين في عملية التزييف هذه.
وأورد الكتاب أمثلة أخرى شائعة جدًا من الأكاذيب التي تُروِّج منذ زمن بعيد في الثقافة العربية الإسلامية مع عدم ذكر مصادر موثوقة لها. والشائع في هذه الأكاذيب أن من يوردونها يوردون «مصادر» لها، وهي مصادر تنقلها عن مصادر سابقة، وهكذا في سلسلة طويلة تنتهي بعدم ذكر المصدر الأول لها. وغالبًا ما يأخذها الناس على أنها صحيحة ويستشهدون بها في الوعظ الديني وفي النقاش السياسي. وكنتُ نشرت بعض ما كتبتُه هنا في صحيفة «الوطن» السعودية، وصحيفة «الشرق» السعودية، وصحيفة «الشرق الأوسط».
ومن اللافت أن بعض من يوردونها ربما لا يرون في إيرادها بأساً، ما دام الغرض من إيرادها الوعظ. إلا أن الوعظ بالكذب مثلبة كبرى يجب أن يُصان منها الوعظ الديني.
وأكد المزيني أن قصده من كشف هذه الأمثلة وتبيين عدم صحتها إنما هو تنقية الثقافة العربية من هذه الأكاذيب التي لا تتفق مع المثل الإسلامية التي تُعلي من شأن الصدق في القول، ولا تتفق مع المثل العلمية التي تُعلي من شأن التثبت والاعتماد على مصادر موثوقة للأقوال التي تورد في أي نوع من أنواع الخطاب والبحث.