في قصيدة الشاعر السعودي عبد المحسن يوسف (نصوص مقتصدة) الواردة في مجموعته (مطر كسول على الباب)، الصادرة سنة 2023 عن دار أدب للنشر والتوزيع بالرياض؛ النص مستحدث في اتجاهه الفنيّ، بارع النظم والتوليف، يقع من قارئه موقع الاستجادة والاستحسان وبلوغ مرامي البلاغة والتبليغ في آن. فرغم انصراف عنوانه إلى زعم الاقتصاد والإيجاز، اقتفى قفو الجداريات فنّاً شعريّاً معاصراً تسلّل إلى خارطة الكتابات الشعريّة العربيّة مشرقاً ومغرباً، ولم يكن من السهل اليسير نظمه دون تجشّم مشاقّ اجتراح شعرائه هندسة التطويل دون تخلّ عمّا أسميناه اللحظة الشعريّة الاستبقائيّة التي تستحوذ على القارئ، وتحفّزه؛ لتلقّي ذلك الدفق الشعريّ المكثّف الذي يتسرّب إلى ذهنه ووجدانه وذائقته ومخيّلته دفعة واحدة أو على مراحل حسب قدرة الشاعر على استنفار مستقبلات النصّ وشحذ لاقطات الحسّ والإحساس في جنس شعريّ هو الجداريّة يصحّ نعته بجنس الأجناس الجداريّة وقصيدة الفنون مجتمعة وهو ما يمنحها قدرة على اكتناز طاقة شعريّة هائلة ، عليها كسب رهانات التسريد والتوصيف والتشكيل دون أن تفقد وحدتها العضوية وتناسقها الداخليّ.
لا مناص، حينئذ في تحليل قصيدة نصوص عبد المحسن يوسف (المقتصدة)؛ التي هي في الأصل نصّ واحد احتوى مجموعة نصوص مقصّرة نضّدت على شاكلة فقرات أو فصوص، بلغ عددها مائة وثلاث عشرة قطعة أو فاصلة شعريّة، من تقصّي مجمل الخاصيات الجمعيّة للمطوّلة مبنى ومعنى ومغنى، وقد استغنت عن معمار القصيدة التقليديّة وحتّى الحرّة المعروفة وتخلّت عن البساطة في الشكل والمضمون، مقابل انتحاء منحى التركيب والتكثيف، عسانا نظفر بما به ندلّل على كونها لم تفقد مع ذلك مقوّمات تنسيقها الجامع وتوليفها المحبوك.
تفطّنا بادئاً إلى احتفاء مكين من الشاعر بتوفير الحدّ الأدنى من الصلات المفصليّة بين (البنية الشعريّة الكبرى) أو (الكليّة) للمطوّلة وبين (بناها الصغرى) أو (الجزئيّة)؛ بصفتها فقراً تتشابه في معظم ميزاتها الفنيّة احتفظت بوحدة موضوعها احتفاظها بملامح بنائية إيقاعيّة تصويريّة متعاودة وإن تدرّجت صعوداً ونزولاً ولامست أكثر من أفق تخييليّ.
لا يفوتنا أن نقرّ في هذا المضمار بكون الجداريّة القائمة أساساً على التبصير والإبصار، كانت أيضاً من تجلّيات الكتابة الشعريّة ذات الوقع الموسيقيّ القويّ الذي جعلها أقرب إلى فنّ السمفونيّة؛ حيث تنبري فقرها ومقطوعاتها بمثابة حزم صوتيّة مرئيّة كأنّها وصلات متناغمة الإيقاع الدّاخليّ والخارجيّ لا تكتفي بالتتابع المرقّم، وإنّما تتصادى وتتلاحم بوشائج متينة بتواتر عدد من الروابط الشكليّة المعنويّة مكّنتها من أن تبقي على قوانين شدّها وجذبها ومن أن تظلّ محكومة بمبادئ الاتصال والانفصال والانتشار. دون أن تفقد كونها تجسّد لوحة شعريّة مؤلّفة من عدّة لوحات تكتنفها لحظة شعرية شديدة الانصهار، ألقت بظلالها على معمار المتن المطوّل وقيّدته تقييداً مرناً رخواً ربمّا يكون من المجدي أن نستدلّ فيه على (جِهيّة) الأفعال الشعريّة المشكّلة لتموّجات الحركة داخل اللوحات الفرعيّة وفي ما بينها باعتبارها (جِهيّة) تراوح بين الانحسار والامتداد وبين التتامم والتضاؤل وبين التدرّج والتعاود في وقت واحد.
فعل قدر تقدّم الحدث الشعريّ إلى الأمام أو تراجعه إلى الخلف بكسر خطيّة الزمن تتسع دوائر المشاهد أو تتقلّص، تقترب من تخوم التسجيل والتوثيق تارة وتتخفّى وراء غلالات الإيحاء والترميز أطواراً. كلّ هذا سمح بتوليد اللوحة من اللوحة وتركيب المشاهد بتفاوت في الطول والعرض والمدى دون ملاحظة أيّ نوع من النشاز أو النفرة أو الانتثار.
ولقد زاوجت كلّ قطعة شعريّة بين أنماط خطابيّة ثلاثة هي السرد والوصف و(المونولوج) أو الحوار الباطنيّ. وكانت كلّ واحدة منها بمثابة وحدة سرديّة قد تستقلّ بذاتها مرحلياً، لكنّها تضطلع بوظيف إتمام تفاصيل المشهد الكليّ وتأثيث الجداريّة برمّتها واستكمال وقائع القصّة المسرودة في شكل فصول لا تخلو من آثار السيرة الذاتيّة ورواية الذات ومن فنّ الرسم بالكلمات. فالتطويل في نصوص عبد المحسن يوسف لم يكن مدعاة لتكثير الأحداث والشخوص، ولا مناسبة لتشعيب المشروع القصصيّ الذي بقي دائراً حول أفعال قليلة متفرّقة منتقاة بحرص شديد من سجلّ العفو ومن معيش الحياة. في حين كانت الاستفاضة في الوصف وتقصّي المشاهد واستقصاء تفاصيلها من مصادرعدّة لم تدّخر وسيلة فنيّة إلاّ واستخدمتها لتكثيف التخييل والإيحاء عبر خلطة عجيبة من الرسوم والجسوم وعجنة فريدة من الخيالات والانطباعات والأفكار المشاعر والأصوات وهو ما سنعنى بتحليله في ما سيأتي.
لا شكّ في أنّ الاقتصاد الشعريّ الذي يدّعيه العنوان هو في الحقيقة حيلة لإخفاء إسهاب مقصود متقصّد في السرد التصويريّ الغارق في تمثيليّته ومشهديّته حتّى النخاع، وما على القارئ سوى بذل جهد مضاعف في تمثّله كلياً وجزئياً وفي استقصاء مكوناته ومكنوناته من عدّة مناح دون أن يفقد متعة الحلول في عالم شعريّ متحرّك متحوّل، لكنّه لا يقبل التفكّك أو التقويض والاندثار.
ليست الجداريّة إذن سوى صورة منتزعة من ألبوم عائليّ مدجّج بالذكريات والصور وشأن الشعر أن يدوّن تاريخنا الفرديّ والجمعيّ بطريقته هو لا بطرائق فنون السرد الأخرى. إذ يقول:
«في ألبومنا العائليّ
أبصر أبي..
يدهن الصيف بالأغاني،
القلب بالنوارس،
والبحر بالنسيان»
أمّ الشاعر أيضا حاضرة بأفعالها وهيآتها وأحوالها وأقوالها، حضورها وهي على قيد الحياة وبعد أن استحالت شبحاً أو طيفاً وقد طوى صفحات وجودها كتاب الموت، ليعمد الشاعر إلى إحيائها وبعثها من جديد ويصيّرها صورة حيّة تلتمع في الذاكرة وصوت غناء شجيّ يتلجلج في السمع والوجدان:
«تلك أمّي إذن،
قبرها جنّة..
باسما قال لي عشب هذا الطريق المؤدّي إلى قبرها.
وإنّي لأتوق لأبكي طويلا على صدرها»
ويقول أيضاً:
«وهي تكنس فناء الدار
تغنّي أمّي طويلاً بحرقة وشجن
غناؤها يسيل في القلب،
يتدفّق في الفناء،
يفتح الباب،
ثمّ يمضي متمهّلاً صوب البساتين المريضة»
ويطالعنا كذلك عنصر المرآة وقد سبق أن بيّنا مدى قيمته في تحقيق إحدى وظائف السيرة الذاتيّة في الشعر والنثر بدءًا بالانعكاس وصولاً إلى التعمية والتضليل المقصودين لتعميم التجربة واستغراق القصّة حتّى تصير قصّة غيريّة تحتضن كلّ الذوات وتترجم مآسي كلّ البشر، فعلى قدر ما يحرص السرد السيريّ النثريّ على التصديق بالتضييق وملازمة السارد مسروده الذاتيّ ينزع السرد الشعريّ منزع التعميم والتعويم ليجعل القصّة جمعيّة مكتظّة بالذوات، يقول الشاعر في درج مطوّلته:
«وجهي..
مرآتي».
الذات الشاعرة في سيرتها الشعريّة ذات مجهولة تتقصّد الألغاز والغموض وتتعنّت في الإفصاح عن لوازم وجودها الضيّق مقابل سعيها الجهيد إلى الانعتاق عبر اعتناق هموم كلّ البشر ففي:
«فناء نصّها الذي لم يكتب بعد
يلهو أطفال طائشون»
وما تلك الأنا غير قناع للآخر ووجه من وجوهه إذ:
«يحدث أن نبكي بعضنا الذي هناك،
بعضنا الذي يمكث في الآخر»
لم تتكتّم سيرة عبد المحسن يوسف بذات القيمة عن أحد أهمّ دوافع كتابتها وهو القادح لفعل التذكّر والاستذكار الذي يطفق دائماً وفي أغلب النصوص السيريّة دافعاً (حنينيًّا نوستالجيًّا) لا يعدم دوافع أخرى كالتبرير والشهادة والتنفيس أو التفكّر والتدبّر أو التطهّر والدفاع عن المواقف والقيم وتمرير الرسائل والحمل على الاقتناع بعدالة قضيّة أو وجاهة أطروحة من الأطاريح الشخصيّة أو الجمعيّة. نكتب السيرة الذاتيّة نثريّة أكانت، أم شعريّة لأننّا «نبحث عن أجوبة لأسئلة الوجود ونرغب في معاودة فهم حيواتنا وتعمّقها بإعادة بناء مجراها كما يعيد مؤرّخ بناء مجرى التاريخ»
فبعد أن «استيقظ فجأة» «فوجد قلبه غارقاً في الصمت والدموع» يعتريه الإحساس المضني بـالقلق والوحدة و«الضجر» وجد نفسه يقول بعض تفاصيل حياته على نحو شعريّ. لا تنفصل كتابة السيرة عن كتاباتنا الوجوديّة وبلاغتها هي «بلاغة التعبير عن السأم» وعن «القلق الوجوديّ» الدافع الأثير الأقوى للكتابة عموما ولكتابة الذات عن الذات بوجه أخصّ، تعميرا للإحساس بالفراغ والعدم يقول الشاعر:
«وبسأم بليغ يمعن التحديق في مرايا الماء
وحيدا يهشّ ذباب وحدته والملل»
إنّها كتابة (العزلة)، صحيفة الحال الأبديّة الأزليّة، المأساة الوجوديّة، القديمة، الحادثة، المتجدّدة التي تعتور كلّ الشعراء والأدباء فتشكّل أعتى قوادح الإبداع.