اعتاد المثقف على الاحتفاء به، وحفظ مكانه ومكانته؛ في المناسبات الثقافية، من خلال توجيه دعوات تؤمّن له تذاكر السفر (ذهاباً وإياباً) وتوفير السكن الملائم، وتأمين الوجبات، والتكفل بغسل وكيّ ملابسه، إلا أن تحولات طرأت في الآونة الأخيرة، ما أثار تساؤلات وحفيظة مثقفين؛ ودفعهم الشعور بالانتقاص من قدرهم لرفض الدعوات والاعتذار ممن وجهها بحجة عدم التمكن من تلبيتها؛ وهنا يتساءل مثقفون عن أسباب التحول في بروتوكول دعوة المثقفين لمناسبات ومهرجانات ومنتديات ومعارض كتب؛ وهل توجيه دعوات منقوصة محل قبول؟ وكأنما يرفع بعض الداعين والمنظمين شعار (أهلا بك ضيفاً على حسابك) ما يشوّه البروتوكول؛ فكانت الحصيلة؛ ما نضعه بين أيديكم من ردود على هذه التساؤلات.
ترى الناقدة الدكتورة فاطمة إلياس، أن موقفها يعتمد على طبيعة الدعوة، وما إذا كان ذلك يشمل جميع المدعوين القادمين من خارج المنطقة التي بها المناسبة الثقافية، وأوضحت إلياس أنها ترفض المحاباة للبعض وإنقاص حق البعض الآخر؛ كونه يدل على سوء تقدير وتدبير المنظمين، لافتةً إلى أن بعض المؤسسات الثقافية توفر تذاكر الإركاب والسكن للمشاركين والمشاركات ببحوث وأوراق علمية فقط، وفي بعض الأحيان ترسل دعوات للحضور دون تحمُّل مسؤولية التذاكر والسكن ودون تفريق بين من يسكنون منطقة الفعالية أو يفدون من خارجها. وهي في نظري دعوة تشريفية، وتنم عن تقدير للشخص المدعو. وأشارت إلى أنه منذ أعوام تصلها دعوة أسبوعية من دار الحكمة في تونس، وتنويه بعنوان المحاضرة أو الندوة والمشاركين فيها وزمنها وتاريخها، دون حديث عن تكاليف الرحلة؛ فتتبسم، وداخلها رغبة في السفر لحضور إحدى الندوات. وأضافت كذلك دعوات مركز الحوار الوطني، التي ترى فيها لفتة تقدير وحرص. وزادت: أن معيار الحكم على الدعوات يقوم على نهج القائمين على المناسبات الثقافية القائم وآلية العمل المقننة والمتسمة بالعدل والمساواة والتقدير لجميع المثقفين دون استثناء ولا تمييز.
فيما عدّ الشاعر عبدالرحمن موكلي الملتقيات الثقافية؛ ظاهرة حضارية في أي مكان، ويرى في الملتقيات صناعة ثقافية لمنتج له جمهور (مستهلك)، وتحتاج إلى قدرات ومعرفة لصناعة مثل هذه الملتقيات لتخرج على أحسن ما يكون. وتساءل موكلي: هل تمثل ملتقياتنا ظاهرة حضارية؟
ويرى أن الإجابة عن السؤال تبقى كلاماً مغمماً دون دراسة واستقصاء حول هذه الملتقيات ومنتجاتها الثقافية وجمهورها ومدى جودة المحتوى وعدمه. وذهب إلى أن حضوره لأي ملتقى ثقافي يخضع -بالنسبة له- للجديد الجيد في الملتقى من خلال برنامجه وفعالياته النوعية غير المكرورة، إضافةً لما يتيح من اللقاء بالأصدقاء وهي ذروة سنام الملتقيات. وأضاف «لا يوجد مانع عندي من قبول الدعوة لحضور الملتقى متى ما وجدت شيئاً جديداً، وكانت مشاركتي فيه بالشكل اللائق، ولو كان تكلفة هذا الأمر على حسابي».
فيما أكدت الناقدة الدكتورة لمياء باعشن، أن الأمر بالنسبة لها عادي، ويحصل منذ زمن. وترى أن هذا يعتمد على ميزانية الجهة صاحبة الدعوة والأمر متروك للمدعو. لافتةً إلى البعد الجغرافي، مشيرةً إلى أنه لو جاءت دعوة لمناسبة في محافظة الطائف فأهل جدة يعتبرون من سكان المنطقة، وليس ضرورياً اشتراط سكن ولا مواصلات وإن كانوا مشاركين بأوراق في البرنامج بحكم قرب المسافة. وترى أن من يحرص على حضور أي مناسبة ثقافية وتهمه المواضيع المطروحة أو المتحدثين يذهب إليها ولو دون دعوة.
ويقرأ الأكاديمي الدكتور عبدالرحمن البارقي، الدعوات على أنها مناسبة ثقافية؛ الأصل فيها أنها متاحة لكل راغب قادر على الوصول دون دعوة، إلا إذا أرادت جهة ما تنظيم مناسبة ثقافية، وآثرت أن تخصّ بعض المثقفين أو المهتمين بدعوات، فهذا حقٌّ لهم، وواجب عليها، ولا قيمة للدعوة دون ما يترتب عليها من تأمين السفر والتنقل والسكن. لافتاً إلى أنه بإمكانه الحضور دون أيّ دعوة لأي مناسبة ثقافية، مشيراً إلى أن أيّ دعوة مجردة ومسلوخة عن لوازمها ومقتضياتها ليست دعوة حقيقية، بل هي أقرب لرفع اللوم والحرج عن الجهة المنظمة، ولا أرى للمثقف أن يقبل على نفسه هذا الأمر، كما لا أرى له المباهاة والاستعراض بالدعوات التي تتضمن حقه كضيف على الجهة في تحمل تكاليف السفر والإقامة، على نحو ما نراه في الفترة الأخيرة على عدد من المنصات الاجتماعية، لأنّ المسألة ثقافية لا تسويقية من جهة، مؤكداً أن الجهة المنظمة لها آليّتها وموازناتها في انتقاء المدعوّين التي لا تنطبق على الجميع بالضرورة. وأضاف: بأنّ الدعوة واجب على الجهة للمستحق، ومقتضياتها حق له، وبالمقابل فمن حقّ الجهة عليه تلبية الدعوة ما لم يكن لديه ما يحول.
ازدراء الثقافة من ازدراء صاحبها
د. زيد بن علي الفضيل
رسخ في الذهن أن الثقافة حرفة تجلب الفقر، فلا تكسب صاحبها رغد العيش، ورسخ في الذهن أن المثقفين يغلب عليهم بساطة الحال وقلة ذات اليد، إلا من كان يتكسب من مهنة تجارية، أو لديه منصب وظيفي رفيع، على أن ذلك كان مقبولاً لدى جمهرة المثقفين المعرفيين الذين وجدوا سلوتهم في ثنايا كتبهم وأروقة مكتباتهم، فتجدهم أشبه ما يكونون بالدراويش في حقل المعرفة، وبحكم ذلك فلم تكن المادة هدفهم، أو شيئاً من متخيلهم في يوم من الأيام، فعيونهم مكتنزة بالحروف الوضيئة، وقلوبهم مرهونة بين كتاب هناك وآخر هناك.
ذلك حال الثقافة وأصحابها منذ الابتداء وإلى حين قريب مضى، إذ ومع تسارع ما نعيشه من تقنية وحياة أخذ سمت المثقف المعرفي في الخفوت، وبدأت ظاهرة المثقف الوهمي في البروز شيئاً فشيئاً، وأدى ذلك إلى ضبابية معنى الثقافة في الوجدان المجتمعي، حيث بات مشاهير وسائط التواصل المجتمعي في عرف جيل ما بعد الألفية من زمرة الثقافة، وهو ما جعل المثقف المعرفي غريباً في ساحته، وصار يُنظر إليه في ميدانه بعين الازدراء جهلاً به من جانب، وعدم وعي بقيمته من جانب آخر؛ لا سيما حين رأوه على طبيعته المعطاءة التي لا تنطلق من بُعد مادي، لكون ذلك ليس في قاموسه الذهني، فتراه منجذباً لأي نشاط دون أن يفاوض أو يشترط، فكان أن تم استرخاصه في عالم تسيطر عليه المادة للأسف الشديد.
وبالتالي فحري به اليوم أن يخرج من محرابه الأخلاقي، ليقول كلمته التي تجب، ويضع ذاته المعرفية حيث يصح أن تكون، وهو ما أحث به نفسي وغيري، فجمهرة المثقفين المعرفيين ليسوا أقل شأناً من جمهرة مشاهير التفاهة كما يقال، الذين يتم الترحيب بهم واستقبالهم واستضافتهم بأغلى وأفضل ما يكون.
ولذلك فأقل ما يمكن أن يوفر للمثقف الجاد حين استضافته تذكرة سفر درجة أولى، واستقبال يليق به، وإيواء في أرقى الفنادق، ومكافأة مالية مجزية، فالمعرفة الواعية لها قيمتها العالية، والأمة الحية هي من تضع المعرفي في مصاف درجات مجتمعها، ولنا في اليابان ومثيلها نموذج يحتذى إن أردنا تقدماً ورُقياً.