كان اللقاء بالشاعر محمد الماجد، من محاسن الصدف، فالمهندس المعماري (وظيفياً) شغوف، بالهدم وإعادة البناء، بوعي واقتدار، لا عبثاً وتمادياً، يشتغل على نصه، كما لو أنه يصمم بناءً؛ ليدهش المتلقي، ويشحذ ذهنه، ويطرب ذائقته، يغنّي المفردات فتثمل المعاني، وينتهك حدود الشكل بالتجريب وبالتضمين؛ ليندفع النص بقوة الإيحاء والإلهام السحري الداعي للتأمل، ولعل في هذا الحوار، ما يؤكد تقاطع الفن مع الجنون والتمرد:
• ما قصة مساءلتك الشعراء من امرئ القيس، إلى محمد الثبيتي؟
•• هو سؤال الحداثة المقلق، فالحداثة تطرّفت كثيراً تجاه التراث، باعتراف (أدونيس) وهو من أقطاب الحداثة؛ وأعدها شجاعةً منه، إذ لم يتأثروا بأبي نواس وأبي تمام الحاضرين في القرن الثاني الهجري، قدر تأثرهم بـ(بودلير) مثلاً، فهناك ما يتجاوز قروناً من الرؤية النقدية، المنقطعة والمنبتة عن جذورها، فنحن منذ ما يتجاوز ثمانية قرون كنا أكثر تقدماً من أوروبا شعرياً، ولعل أبا العلاء المعرّي أبلغ حداثةً من (سيوران) الذي نقل عنه أدونيس قوله «لو عرفتُ بتجربة أبي العلاء وثرائها؛ لما كتبتُ حرفاً واحداً». هذه جهة من الحداثة، والجهة الأخرى، هي التي تحفر فيها الحداثة؛ وهو التراث العربي العريق العميق، من امرئ القيس ابتداءً، مروراً بكل الشعراء الإنسانيين، من العمودي إلى التفعيلة إلى النثر، إلى اللغة البيضاء، وإلى الأهزوجة إلى الرجز إلى المنظومات، والحكاية، والفن الشعبي، والفلكلور، وفن الصوت، فأدونيس يعترف بأنّ الحداثة أدارت ظهرها لكل هذا الثراء، وانتبهت أخيراً لحجم وأثر الفادحة، فعادت للتكفير، ويبدو أن العرب أهملوا الكثير من الحقول، ومن حُسن الحظ أن الحقل الشعري لا يزال نضراً، ومغرياً لأي باحث.
• ما شعورك وأنت تترافع وتتقاطع مع أسلافٍ مؤسساً تجربة لها خصوصيتها؟
•• حنق إيجابي، لا يمكن أن يُقرأ خارج هذا الإطار، وبقدر ما فيه من انتقاد، بقدر ما فيه من تفاؤل وتفاعل مع هذا التراث الجدير بإعادة القراءة والتعالق معه لغوياً، وإلا ما كنت لأقف في وجه طود عظيم مثل امرئ القيس وأوجّه له مثل هذه التساؤلات، فأنا أطمعُ في إشعال حريق من نوع ما، يثير دخاناً، أو ضباباً باحوياً جميلاً.
• متى كان الخروج من البئر الأولى، وبماذا خرجت؟
•• لعل القراءة المُبكّرة، منذ المرحلة الابتدائية، وتعلقي بالمكتبة المدرسية، واستعارة القصص لأعيد قراءتها ليلاً؛ بشيء من الدهشة والتأمل، وفي المرحلة المتوسطة أسرتني مادة الأناشيد والمحفوظات، ولم يكن تفكيري بالشعر وكتابته إلا العشق، ودون شك هناك ينابيع، ربما أتذكر بعضاً منه وربما ننسى، وكما قيل (الأسد هو مجموعة من الخراف المهضومة)، فجيلنا وفي مطلع العقد الثالث، كنا نجتمع، وكان الشكل الشعري العامودي، هو المنطلق بحكم البيئة، الحاضنة، الثمانينات برزت المحاولات الأولى، ولم نعر اهتماماً للتفعيلة رغم حضور محمود درويش، وأدونيس، فالبداية كلاسيكية.
• لماذا وأنت خريج جامعة البترول والمعادن، الأقرب للمواد العلمية تعلّقت بهذا الفن النظري؟
•• صدقني لا أدري، فأنا فعلاً توجهي الدراسي علمي، إلا أنه ظهر تعلّقي بأبي فراس الحمداني، وبالسياب، ونازك الملائكة، وبدأت بجمع المجموعات الشعرية، وسجّلتُ حواراً للجواهري بثته محطة تلفزيون البحرين، وكنتُ مذهولاً وأنا أتابع الشاعر العملاق محمد مهدي الجواهري، وإلى وقت دخولي الجامعة كنتُ قارئاً، ومستمعاً للشعر، وربما إلى أن تخرجت من الجامعة، إلا أن هناك شباناً مهتمين كانوا يجتمعون في لقاء أسبوعي، ومن قبل معرفتي بهم بأعوام، فوجهوا لي الدعوة، وحضرتُ لأصغي، وهم يغروني بإبداء وجهة نظري، ومن وقتها انطلقت التجربة.
• معنى ذلك أنك أتيت للشعر دون تخطيط مسبق؟
•• هو كذلك بالفعل، اندمجت في مجموعة الأصدقاء، وتورّطتُ بالشعر، إلا أنني منذ بدأت حملت الفكرة والتوجه على محمل الجدّ، وكانت التجربة الأولى بكتابة العمود، وفي ظل إشادة الأصدقاء، غادرته سريعاً إلى التفعيلة ؛ ثم إلى النثر.
• هل تأثرت بمجموعة الأصدقاء؟
•• نعم كثيراً، لأنهم كانوا على قدر كبير من الوعي بالإبداع، والدفع بي نحو التجريب، ومنهم الشاعر شفيق العبادي، والشاعر عبدالكريم زارع، والباحث عبدالخالق الجنبي، ومدير مشروع القطيف الجيني محسن الشبركة، وحبيب محمود، وجمال رسول، وحسن المصطفى، وزكي الصدير، وزكي اليحيى، ومع الوقت الشباب يحضرون التجارب للقراءة، وكان محسن الشبركة، يدرس عند الناقد الكبير الدكتور عبدالله الغذامي، فبدأ يزوّد صديقنا بصور من مجموعة الشاعر المتفرد( محمد الثبيتي) التضاريس تحديداً، وكانت بخطّ يد (سيّد البيد)، ومنذ قرأنا الثبيتي شعرنا بصدمة كبيرة، وأشبّه تلك اللحظة المفصلية (بحادثة سير) كأننا نقود سيارة بسرعة جنونية واصطدمنا بجدار صلب وعال، فأشعل (أبو يوسف) فينا حريقاً بتضاريسه، وبعض التقليديين عدّوا افتتاننا به، خروجاً وتمرداً على السويّة الدينية، إلا أننا نحن المغرمين بنار الشعر ذهبنا مع الثبيتي دون تردد، وبالتوازي كانت تجربة الحداثة العربية بين أيدينا بحكم الانفراجات في توفير الكتب، والقرب من المنامة.
• بماذا أدهشكم الثبيتي؟
•• باللغة قطعاً، وقدرته على صياغة قاموسه أو معجمه الخاص به، والذي لا يشبه فيه أحد، وكنا نغنيه كل ليلة جمعة، وكان محسن الشبركة يفكك نصوص التضاريس ببراعة مذهلة، فكنا نستمتع بالنص، وبالقراءة النقدية المجنونة، والمجنحة بنا لأمداء وفضاءات أرحب، فتشربنا الثبيتي على يد محسن الشبركة الذي لو استمر في مراكمة تجربته لكان اليوم من أبرز النقاد، ثم تناولنا تجربة محمود درويش والسياب وسميح القاسم، ومن إذاعة قطر، تعرّفنا على الشاعر السوري علي الجندي، والعراقي عدنان الصائغ.
• هل تحولك للتفعيلة ثم النثر؛ سيرورة طبيعية لتجربتك؟
•• تماماً، ولا أخفيك أن جدل الحداثة كله، جدل فلسفي عميق، ولا يتمحور حول الشكلاني والنمط، فلا يمكن للغة إلا أن تكون كائناً حياً، ولا مناص للكائن من التطور، بتطور الحياة والأحياء، وتنعتق من (سجن العمود) إلى حرية التعبير التفعيلية ثم النثرية، والمعمار العالي كما عند محمود درويش، والفضاء الواسع الخالي من القيود، وقصيدة النثر من الشعر العالي جداً.
• ماذا يعني لك التحول الشعري فلسفياً؟
•• يعني أن اللغة بكل طاقتها لا يمكن القبض عليها مطلقاً، وتنميطها، فاللغة كائن منفلت، لا يمكن أن تأسره أو تحصره في شكل من الأشكال، فالحرية شرط جمالي للغة، والشكل يرتبط بالذائقة، والذائقة نسبيّة، وهناك شكل وشكل آخر، من حقها أن تتجاور وتتحاور، في سبيل ديالكتيك إيجابي قادر على بناء لغة مفارقة، فتبقى جينة الحداثة موجودة في كل شكل من الأشكال، ومصطلح العمود الجديد لعله يذهب لهذا الاتجاه، وليس عاراً على اللغة مسايرة عصرها، بشجاعة وجرأة وجمالية، في ظل العصر الرقمي والتكنولوجيا الحديثة.
• ألم تتعرض للنقمة، وأنت ابن المراثي الموغلة في غنائيتها؟ •• أعدتني للبيئة، ونحن أطفال كنا نتحلّق حول المنابر، ونسمع أبدع الرثائيات الكلاسيكية، ويبدو أن الجواهري آخرها، فقبله السيّد جعفر الحلي، والسيد حيدر الحلّي، والسيّد الحبوبي، والكواز، فتصور أمام هذه القصائد التي تتم قراءتها بتنغيم، وأطوار موسيقية، فالقابل يسكنه كل هذا الفيض الذي يظهر على التجربة لاحقاً، وهناك بالفعل نظرة سلبية للتفعيلة والنثر؛ باعتبارها خارج الإطار المؤسساتي والشعبوي المؤصل عبر تقاليد وأعراف مجتمعية حاضنة، وربما شكلياً يخرجك البعض من منظومته الدينية بسبب تمرُّدك باللغة على اللغة.
• أين كانت قسوة ردة الفعل على تجربتك؟
•• حدثت مرة واحدة فقط، ضمن أمسية كلاسيكية جداً، فدخلتُ الأمسية وألقيتُ نصاً حديثاً، والقائم على الفعالية تذمّر مني، وربما فكّر في إنزالي من المنصة، وبشكل عام، ليس هناك ردود أفعال قاسية تمثّل عائقاً يحول دون استمراريتك.
• كيف تمايز بين الشعر والنظم؟
•• النظم كمن يدخل نفقاً يصعب عليه الخروج منه، ولا العودة عنه، فالشعر رؤية، والإبداع والتفرد يحتاج لرؤية، والتقليدي، لربما كانت لديه إمكانية لتطوير تجربته، إلا أنه لخطأ في التقدير يبدأ ناظماً ويستمر لفقد رؤية وبصيرة النقد لذاته وحاجاته للمضي قُدماً، فهو واقف ويظن نفسه متحركاً، والمشكلة ليست مع النظم، كونه لم يبدأ لينتهي، لأنه خارج الشعر، المشكلة مع النمط، فالذي يكتب القصيدة العمودية، ويطلق عليها عموداً جديداً وهو لم يغادر القصيدة العمودية النمطية، ثم يقلّد ويحاكي ويعدّه نمطاً جديداً وهو غارق في تقليديته، فالاعتقاد بعمود جديد نكوص شعري وفني.
• ماذا أضافت مواقع التواصل الاجتماعي للقصيدة؟
•• سطّحت الموضوع إلى حد بعيد، ونستعيد مقولة: كلما زاد عدد الجمهور تراجع مستوى النص، فالانتشار الواسع للكتابة الشعرية يثير سؤالاً: هل هو لمصلحة الشعر أم ضده؟
• هل من إيجابية لكثرة ظهور الشعراء في أماسٍ ومناسبات؟
•• هناك حكمة جاءت من علم الكلام، والإلهيات، تقول: لا أحد يهتم بما هو كثير الوجود، فبالطبع الكثرة تعوّد والتعوّد ملل، وكسل دائم، فالظهور بحذر وحساب، فمن يخسر العزلة يخسر نصه، والحضور المتكرر فضيحة للنص، ولكاتبه، يفضي للركود، وكثير الظهور يقع في فخ مؤسسي يحكمه المجتمع، والفعاليات الثقافية والمهرجانات، فتتحول القيم الشعرية لديه لقيم آلية ومؤسسية، لا فردية.
• ماذا أضافت دراستك في جامعة البترول والمعادن لنص محمد الماجد؟
•• لحسن حظي أني درست (العمارة) وفي الماجستير الهندسة المعمارية، والعمارة حداثة، وتاريخ فن، وهي علم جمال، وكل مناطق الجمال المعماري تنتقل للنص عبر وعي غير مرئي، وهناك نظرية تقول «الغنى في البساطة»، وفي العمارة فراغ وامتلاء، فالنص إن لم يكن به امتلاء وفراغ، لن تشعر به، فالتناغم والتجانس والتناص موجودة في العمارة شأن النص الشعري.
• هل افتقدت تجربتكم للناقد الموضوعي؟
•• نعم، نفتقد الناقد المستقل، وابتلينا بالناقد الأيديولوجي، فيه نقاد حداثة تعصبوا لقصيدة النثر، دون إنصاف للتفعيلة، والعمودي، والشاعر ذو البصيرة لا يلتفت.
• كيف ترى حضور جمهور الشعر؟
•• بالتأكيد ما زال الشعر حاجة، وكلما شعرنا بالاستغناء عنه، ينبغي أن نصرّ على بقائه، وأماسي وزارة الثقافة الشعرية تؤكد هذا التوجه، كون الشعر مؤانساً ومخففاً مآسي الإنسان.
• في إلقائك تقاطع مع الجواهري ومحمد العلي؟
•• لا تقاطع بيني وبين الجواهري ومحمد العلي، فتجربتي لا تشبه تجاربهما، ولم تقترب من عالمهما.
• هل في تقديم النص بقصة رشوة للمتلقي؟
•• لستُ في حاجة لرشوة المتلقي بشرح القصيدة، لكن هناك من يلذ له سماع الدوافع والمحفزات ومخاض النص.
• أي نمط شعري له المستقبل؟••النمط شكلٌ تصب فيه اللغة، والشعرية شرط للشعر، ويحتاج رؤية فلسفية يخترق بمعناها الوعي، ويحفز على التأويل.