وأخيراً نجحت الإدارة الأمريكية في مرحلة انتقالية من تسليم السلطة في الولايات المتحدة في التوصل إلى وقف إطلاق النار، والبدء بتنفيذ هذا الاتفاق بشكل تدريجي، حتى الانتهاء من كل بنود الاتفاق بعد ما يقارب عاماً وثلاثة أشهر من حمام الدم المخزي الذي مارسته سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
تشير بنود الاتفاق التي تم التوصل إليها إلى العملية التدريجية في تنفيذ هذا الاتفاق التي تبدأ بحسن النوايا في وقف إطلاق النار لمدة ستة أسابيع، ومن ثم الانسحاب التدريجي للقوات الإسرائيلية من وسط غزة، يلي ذلك عودة النازحين الفلسطينيين إلى شمال القطاع، والسماح بدخول 600 شاحنة محملة بالمساعدات الإنسانية إلى غزة، وينتهي الاتفاق أخيراً بالإطلاق المتبادل للأسرى بين إسرائيل وحماس.
الاتفاق الذي سيبدأ تنفيذه الأحد القادم، سيكون البداية لعودة الحياة إلى قطاع غزة وطي أسوأ صفحات غزة في التاريخ، وبالتالي ستكون هناك حياة جديدة لأهالي غزة بالدرجة الأولى وللفلسطينيين بالدرجة الثانية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بعد هذا الاتفاق الحلم، ماذا بقي من القضية الفلسطينية وماذا عن نهاية هذا الصراع الدامي الذي ينفجر بين الحين والآخر!؟ هل يقبل المجتمع الدولي بعد أحداث 7 أكتوبر أن تبقى القضية الفلسطينية رهينة المفاجآت من أطراف الصراع!؟ وماذا يمكن لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب أن تفعل في السنوات الأربع القادمة؟
أكثر ما هو إيجابي في هذا الاتفاق هو إزالة الكابوس عن أهالي القطاع، وتوقف القتل اليومي عن المدنيين، وعودة النازحين، ودخول المساعدات إلى القطاع، وهذا يعني أن الحياة كتبت للقطاع من جديد، ولكن في الوقت ذاته لا بد أن نسأل ماذا بعد الاتفاق وكيف سيعيش الشرق الأوسط بعد كل هذا الدم في غزة ولبنان.!
الدرس الأول من الحرب على غزة، طوال هذه الأشهر الماضية، أنه لا أحد يستطيع أن يخرج منتصراً في أي حرب، ولا أحد يستطيع أن يفرض قواعده على الآخر دون التوصل إلى حلول نهائية، وإذا سألنا السؤال التالي: ألا يمكن تحقيق هذا الاتفاق منذ الأشهر الأولى؟ الجواب نعم، إذن لماذا كل هذه الحرب وهذا القتل وهذا العناد السياسي.!
تقول الأدبيات السياسية العربية إن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية في الذهنية العربية، كانت هذه الأدبية على الطاولة العربية منذ النكبة في عام 1948، والحقيقة لم تغادر القضية الفلسطينية الطاولة طوال العقود الماضية، ذلك أن كل القضايا الفرعية في المنطقة هي نتاج تأجيل الحل للقضية الفلسطينية.
تطرف اليمين
مشكلة إسرائيل في المنطقة داخلية وخارجية، على المستوى الداخلي لا تستطيع النخب السياسية في إسرائيل العيش من دون الاستثمار في القضية الفلسطينية، كما فعل نتنياهو الذي كان يريد إطالة عمره السياسي على حساب الحرب في غزة، فبقاء القضية الفلسطينية معطلة ومن دون حل يعطي السياسيين الإسرائيليين فرصة للوصول إلى السلطة في المزاودة على الحل، وبالتالي يحاول الجميع أن تكون القضية الفلسطينية بورصة إسرائيلية.
وعلى المستوى الخارجي، ترسم إسرائيل سياستها الإقليمية والدولية على هذه القضية، وتحاول الابتزاز السياسي للمجتمع الدولي من خلال الحروب على الشعب الفلسطيني، خصوصا أنها الطرف الأقوى على المستوى العسكري، وبالتالي كل حرب تندلع في الأراضي الفلسطينية ترى السياسيون الإسرائيليون يحصلون على مكاسب سياسية وعسكرية واقتصادية ومكاسب أخرى. ولم يخطر في بال أي سياسي إسرائيلي الدخول في اتفاق سلام مع الجانب الفلسطيني؛ لأنها البقرة الحلوب «سياسيا» للنخبة السياسية الإسرائيلية.
لقد دفع إسحاق رابين في نوفمبر العام 1995 ثمن قبوله بالسلام على المستوى الفلسطيني وعلى المستوى السوري، ولم يترك اليمين المتطرف في إسرائيل أي فرصة لرابين في المضي باتفاق السلام وانتهى مقتولا ومعه محاولات اتفاق السلام، وهنا تكمن العقدة في إسرائيل.
العقدة هي عدم قدرة المجتمع الدولي على إقناع اليمين المتطرف من أن السلام هو أفضل المعارك التي يمكن لإسرائيل أن تخوضها في المنطقة، وللأسف ينصاع الغرب في معظم الأحيان إلى تفكير اليمين المتطرف، وهذا اليمين المتطرف ذاته يعتاش على اليمين الآخر في غزة الذي يتبادل معه التطرف، لكن الفرق أن اليمين الإسرائيلي يمتلك الوحشية والجرأة على قتل كل شيء في فلسطين، بينما اليمين الفلسطيني أقل قدرة وأضعف منه عسكريا، ولهذا دائما ما يدفع الفلسطينيون ثمن القوة الإسرائيلية اليمينية.
من هنا وعلى الرغم من أن التوصل إلى وقف إطلاق النار منح الفلسطينيون فرصة الحياة مرة أخرى، بعد همجية ووحشية لا نظير لها في التاريخ، إلا أن هذا يجب أن يكون بداية الطريق من أجل التوصل إلى حل نهائي للقضية الفلسطينية، ولعل الدرس الكبير الذي يمكن أن نستخلصه من الحرب على غزة أن ما لا يمكن تحقيقه بالحرب يمكن تحقيقه بالسلام والتفاوض من دون تكاليف تفوق قدرة العالم على تحملها كما حدث في غزة.
لقد تغيرت المعادلة في سورية وفي لبنان وفي كثير من الدول بعد الحرب على غزة، لكن حان الوقت لتتغير أيضا في فلسطين ذاتها التي ظلت على مدى العقود الماضية عامل تغيير في الموازين السياسية دون أن تتغير هي، وحتى تدخل المنطقة في مرحلة جديدة لا بد من تنازلات كبيرة في المنطقة وخصوصا في فلسطين وإسرائيل، ولعل الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الأكثر قدرة للدفع بهذه الصفقة، وستكون هذه هي فعلا صفقة القرن التي ستعيد تشكيل العالم وليس المنطقة فحسب.